فصل: تفسير الآيات رقم (1- 33)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***


سورة التحريم

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 7‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏1‏)‏ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ‏(‏2‏)‏ وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ‏(‏3‏)‏ إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ‏(‏4‏)‏ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ‏(‏5‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ‏(‏6‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏يا أيها النبي‏}‏‏:‏ نداء إقبال وتشريف وتنبيه بالصفة على عصمته مما يقع فيه من ليس بمعصوم؛ ‏{‏لم تحرم‏}‏‏:‏ سؤال تلطف، ولذلك قدم قبله ‏{‏يا أيها النبي‏}‏، كما جاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عفا الله عنك لم أذنت لهم‏}‏ ومعنى ‏{‏تحرم‏}‏‏:‏ تمنع، وليس التحريم المشروع بوحي من الله، وإنما هو امتناع لتطييب خاطر بعض من يحسن معه العشرة‏.‏ ‏{‏ما أحل الله لك‏}‏‏:‏ هو مباشرة مارية جاريته، وكان صلى الله عليه وسلم ألمّ بها في بيت بعض نسائه، فغارت من ذلك صاحبة البيت، فطيب خاطرها بامتناعه منها، واستكتمها ذلك، فأفشته إلى بعض نسائه‏.‏ وقيل‏:‏ هو عسل كان يشربه عند بعض نسائه، فكان ينتاب بيتها لذلك، فغار بعضهن من دخوله بيت التي عندها العسل، وتواصين على أن يذكرن له على أن رائحة ذلك العسل ليس بطيب، فقال‏:‏ «لا أشربه»‏.‏ وللزمخشري هنا كلام أضربت عنه صفحاً، كما ضربت عن كلامه في قوله‏:‏ ‏{‏عفا الله عنك لم أذنت لهم‏}‏ وكلامه هذا ونحوه محقق قوي فيه، ويعزو إلى المعصوم ما ليس لائقاً‏.‏

فلو حرم الإنسان على نفسه شيئاً أحله الله، كشرب عسل، أو وطء سرية؛ واختلفوا إذا قال لزوجته‏:‏ أنت عليّ حرام، أو الحلال على حرام، ولا يستثني زوجته؛ فقال جماعة، منهم الشعبي ومسروق وربيعة وأبو سلمة وأصبغ‏:‏ هو كتحريم الماء والطعام‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم‏}‏ والزوجة من الطيبات ومما أحله الله‏.‏ وقال أبو بكر وعمر وزيد وابن عباس وابن مسعود وعائشة وابن المسيب وعطاء وطاووس وسليمان بن يسار وابن جبير وقتادة والحسن والأوزاعي وأبو ثور وجماعة‏:‏ هو يمين يكفرها‏.‏ وقال ابن مسعود وابن عباس أيضاً في إحدى روايتيه، والشافعي في أحد قوليه‏:‏ فيه تكفير يمين وليس بيمين‏.‏ وقال أبو حنيفة وسفيان والكوفيون‏:‏ هذا ما أراد من الطلاق، فإن لم يرد طلاقها فهو لا شيء‏.‏ وقال آخرون‏:‏ كذلك، فإن لم يرد فهو يمين‏.‏ وفي التحرير، قال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ إن نوى الطلاق فواحدة بائنة، أو اثنين فواحدة، أو ثلاثاً فثلاث، أو لم ينو شيئاً فيمين وهو مول، أو الظهار فظهار‏.‏ وقال ابن القاسم‏:‏ لا تنفعه نية الظهار ويكون طلاقاً‏.‏ وقال يحيى بن عمر‏:‏ يكون، فإن ارتجعها، فلا يجوز له وطئها حتى يكفر كفارة الظهار فما زاد من أعداده، فإن نوى واحدة فرجعية، وهو قول الشافعي‏.‏ وقال الأوزاعي وسفيان وأبو ثور‏:‏ أي أي شيء نوى به من الطلاق وقع وإن لم ينو شيئاً، فقال سفيان‏:‏ لا شيء عليه‏.‏ وقال الأوزاعي وأبو ثور‏:‏ تقع واحدة‏.‏ وقال الزهري‏:‏ له نيته ولا يكون أقل من واحدة، فإن لم ينو فلا شيء‏.‏

وقال ابن جبير‏:‏ عليه عتق رقبة وإن لم يكن ظهاراً‏.‏ وقال أبو قلابة وعثمان وأحمد وإسحاق‏:‏ التحريم ظهار، ففيه كفارة‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ إن نوى أنها محرمة كظهر أمه، فظهار أو تحريم عينها بغير طلاق، أو لم ينو فكفارة يمين‏.‏ وقال مالك‏:‏ هي ثلاث في المدخول بها، وينوى في غير المدخول بها، فهو ما أراد من واحدة أو اثنتين أو ثلاث‏.‏ وقاله علي وزيد وأبو هريرة‏.‏ وقيل‏:‏ في المدخول بها ثلاث، قاله عليّ أيضاً وزيد بن أسلم والحكم‏.‏ وقال ابن أبي ليلى وعبد الملك بن الماجشون‏:‏ هي ثلاث في الوجهين، ولا ينوي في شيء‏.‏ وروى ابن خويز منداد عن مالك، وقاله زيد وحماد بن أبي سليمان‏:‏ إنها واحدة بائنة في المدخول بها وغير المدخول بها‏.‏ وقال الزهري وعبد العزيز بن الماجشون‏:‏ هي واحدة رجعية‏.‏ وقال أبو مصعب ومحمد بن الحكم‏:‏ هي في التي لم يدخل بها واحدة، وفي المدخول بها ثلاث‏.‏ وفي الكشاف لا يراه الشافعي يميناً، ولكن سبباً في الكفارة في النساء وحدهن، وإن نوى الطلاق فهو رجعي‏.‏ وعن عمر‏:‏ إذا نوى الطلاق فرجعي‏.‏ وعن علي‏:‏ ثلاث؛ وعن زيد‏:‏ واحدة؛ وعن عثمان‏:‏ ظهاراً‏.‏ انتهى‏.‏ وقال أيضاً‏:‏ ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لما أحله‏:‏ «هو حرام علي»، وإنما امتنع من مارية ليمين تقدّمت منه، وهو قوله‏:‏ ‏"‏ والله لا أقربها بعد اليوم ‏"‏، فقيل له‏:‏ ‏{‏لم تحرم ما أحل الله لك‏}‏‏:‏ أي لم تمتنع منه بسبب اليمين‏؟‏ يعني أقدم على ما حلفت عليه وكفر، ونحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وحرمنا عليه المراضع‏}‏ أي منعناه منها‏.‏ انتهى‏.‏ و‏{‏تبتغي‏}‏‏:‏ في موضع الحال‏.‏ وقال الزمخشري تفسير لتحرم، أو استئناف، ‏{‏مرضات‏}‏‏:‏ رضا أزواجك، أي بالامتناع مما أحله الله لك‏.‏

‏{‏قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم‏}‏‏:‏ الظاهر أنه كان حلف على أنه يمتنع من وطء مارية، أو من شرب ذلك العسل، على الخلاف في السبب، وفرض إحالة على آية العقود، ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان‏.‏ وتحلة‏:‏ مصدر حلل، كتكرمة من كرم، وليس مصدراً مقيساً، والمقيس‏:‏ التحليل والتكريم، لأن قياس فعل الصحيح العين غير المهموز هو التفعيل، وأصل هذا تحللة فأدغم‏.‏ وعن مقاتل‏:‏ أعتق رقبة في تحريم مارية‏.‏ وعن الحسن‏:‏ لم يكفر‏.‏ انتهى‏.‏ فدل على أنه لم يكن ثم يمين‏.‏ و‏{‏بعض أزواجه‏}‏‏:‏ حفصة، والحديث هو بسبب مارية‏.‏ ‏{‏فلما نبأت به‏}‏‏:‏ أي أخبرت عائشة‏.‏ وقيل‏:‏ الحديث إنما هو‏:‏ «شربت عسلاً»‏.‏ وقال ميمون بن مهران‏:‏ هو إسراره إلى حفصة أن أبا بكر وعمر يملكان إمرتي من بعدي خلافه‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏فلما نبأت به‏}‏؛ وطلحة‏:‏ أنبأت، والعامل في إذا‏:‏ اذكر، وذكر ذلك على سبيل التأنيب لمن أسرّ له فأفشاه‏.‏ ونبأ وأنبأ، الأصل أن يتعديا إلى واحد بأنفسهما، وإلى ثان بحرف الجر، ويجوز حذفه فتقول‏:‏ نبأت به، المفعول الأول محذوف، أي غيرها‏.‏

و ‏{‏من أنبأك هذا‏}‏‏:‏ أي بهذا، ‏{‏قال نبأني‏}‏ أي نبأني به أو نبأنيه، فإذا ضمنت معنى أعلم، تعدت إلى ثلاثة مفاعيل، نحو قول الشاعر‏:‏

نبئت زرعة والسفاهة كاسمها *** تهدي إليّ غرائب الأشعار

‏{‏وأظهره الله عليه‏}‏‏:‏ أي أطلعه، أي على إفشائه، وكان قد تكوتم فيه، وذلك بإخبار جبريل عليه السلام‏.‏ وجاءت الكناية هنا عن التفشية والحذف للمفشى إليها بالسر، حياطة وصوناً عن التصريح بالاسم، إذ لا يتعلق بالتصريح بالاسم غرض‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏عرّف‏}‏ بشد الرّاء، والمعنى‏:‏ أعلم به وأنب عليه‏.‏ وقرأ السلمي والحسن وقتادة وطلحة والكسائي وأبو عمرو في رواية هارون عنه‏:‏ بخف الراء، أي جازى بالعتب واللوم، كما تقول لمن يؤذيك‏:‏ لأعرفن لك ذلك، أي لأجازينك‏.‏ وقيل‏:‏ إنه طلق حفصة وأمر بمراجعتها‏.‏ وقيل‏:‏ عاتبها ولم يطلقها‏.‏ وقرأ ابن المسيب وعكرمة‏:‏ عراف بألف بعد الراء، وهي إشباع‏.‏ وقال ابن خالويه‏:‏ ويقال إنها لغة يمانية، ومثالها قوله‏:‏

أعوذ بالله من العقراب *** الشائلات عقد الأذناب

يريد‏:‏ من العقرب‏.‏ ‏{‏وأعرض عن بعض‏}‏‏:‏ أي تكرماً وحياء وحسن عشرة‏.‏ قال الحسن‏:‏ ما استقصى كريم قط‏.‏ وقال سفيان‏:‏ ما زال التغافل من فعل الكرام، ومفعول عرّف المشدد محذوف، أي عرّفها بعضه، أي أعلم ببعض الحديث‏.‏ وقيل‏:‏ المعرّف خلافة الشيخين، والذي أعرض عنه حديث مارية‏.‏ ولما أفشت حفصة الحديث لعائشة واكتتمتها إياه، ونبأها الرسول الله صلى الله عليه وسلم به، ظنت أن عائشة فضحتها فقالت‏:‏ ‏{‏من أنبأك هذا‏}‏ على سبيل التثبت، فأخبرها أن الله هو الذي نبأه به، فسكنت وسلمت‏.‏ ‏{‏إن تتوبا إلى الله‏}‏‏:‏ انتقال من غيبة إلى خطاب، ويسمى الالتفات والخطاب لحفصة وعائشة‏.‏ ‏{‏فقد صغت‏}‏‏:‏ مالت عن الصواب، وفي حرف عبد الله‏:‏ راغت، وأتى بالجمع في قوله‏:‏ ‏{‏قلوبكما‏}‏، وحسن ذلك إضافته إلى مثنى، وهو ضميراهما، والجمع في مثل هذا أكثر استعمالاً من المثنى، والتثنية دون الجمع، كما قال الشاعر‏:‏

فتخالسا نفسيهما بنوافذ *** كنوافذ العبط التي لا ترفع

وهذا كان القياس، وذلك أن يعبر بالمثنى عن المثنى، لكن كرهوا اجتماع تثنيتين فعدلوا إلى الجمع، لأن التثنية جمع في المعنى، والإفراد لا يجوز عند أصحابنا إلا في الشعر، كقوله‏:‏

حمامة بطن الواديين ترنمي *** يريد‏:‏ بطني‏.‏ وغلط ابن مالك فقال في كتاب التسهيل‏:‏ ونختار لفظ الإفراد على لفظ التثنية‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ تظاهرا بشد الظاء، وأصله تتظاهرا، وأدغمت التاء في الظاء، وبالأصل قرأ عكرمة، وبتخفيف الظاء قرأ أبو رجاء والحسن وطلحة وعاصم ونافع في رواية، وبشد الظاء والهاء دون ألف قرأ أبو عمرو في رواية، والمعنى‏:‏ وأن تتعاونا عليه في إفشاء سره والإفراط في الغيرة، ‏{‏فإن الله هو مولاه‏}‏‏:‏ أي مظاهره ومعينه، والأحسن الوقف على قوله‏:‏ ‏{‏مولاه‏}‏‏.‏

ويكون ‏{‏وجبريل‏}‏ مبتدأ، وما بعده معطوف عليه، والخبر ‏{‏ظهير‏}‏‏.‏ فيكون ابتداء الجملة بجبريل، وهو أمين وحي الله واختتامه بالملائكة‏.‏ وبدئ بجبريل، وأفرد بالذكر تعظيماً له وإظهاراً لمكانته عند الله‏.‏ ويكون قد ذكر مرتين، مرة بالنص ومرة في العموم‏.‏ واكتنف صالح المؤمنين جبريل تشريفاً لهم واعتناء بهم، إذ جعلهم بين الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون‏.‏ فعلى هذا جبريل داخل في الظهراء لا في الولاية، ويختص الرسول بأن الله هو مولاه‏.‏ وجوزوا أن يكون ‏{‏وجبريل وصالح المؤمنين‏}‏ عطفاً على اسم الله، فيدخلان في الولاية، ويكون ‏{‏والملائكة‏}‏ مبتدأ، والخبر ‏{‏ظهير‏}‏، فيكون جبريل داخلاً في الولاية بالنص، وفي الظهراء بالعموم، والظاهر عموم وصالح المؤمنين فيشمل كل صالح‏.‏ وقال قتادة والعلاء بن العلاء بن زيد‏:‏ هم الأنبياء، وتكون مظاهرتهم له كونهم قدوة، فهم ظهراء بهذا المعنى‏.‏ وقال عكرمة والضحاك وابن جبير ومجاهد‏:‏ المراد أبو بكر وعمر، وزاد مجاهد‏:‏ وعلي بن أبي طالب‏.‏ وقيل‏:‏ الصحابة‏.‏ وقيل‏:‏ الخلفاء‏.‏ وعن ابن جبير‏:‏ من يرئ من النفاق، وصالح يحتمل أن يراد به الجمع، وإن كان مفرداً فيكون كالسامر في قوله‏:‏ ‏{‏مستكبرين به سامراً‏}‏ أي سماراً‏.‏ ويحتمل أن يكون جمعاً حذفت منه الواو خطأ لحذفها لفظاً، كقوله‏:‏ ‏{‏سندع الزبانية‏}‏ وأفرد الظهير لأن المراد فوج ظهير، وكثيراً ما يأتي فعيل نحو‏:‏ هذا للمفرد والمثنى والمجموع بلفظ المفرد، كأنهم في الظاهرة يد واحدة على من يعاديه، فما قد تظاهر امرأتين على من هؤلاء ظهراؤه، وذلك إشارة إلى تظاهرهما، أو إلى الولاية‏.‏

وفي الحديث أن عمر قال‏:‏ يا رسول الله لا تكترث بأمر نسائك، والله معك، وجبريل معك، وأبو بكر وأنا معك، فنزلت‏.‏ وروي عنه أنه قال لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏عسى ربه إن طلقكن‏}‏ الآية، فنزلت‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ طلقكن بفتح القاف، وأبو عمرو في رواية ابن عباس‏:‏ بإدغامها في الكاف، وتقدم ذكر الخلاف في ‏{‏أن يبدله‏}‏ في سورة الكهف، والمتبدل به محذوف لدلالة المعنى عليه، تقديره‏:‏ أن يبدله خيراً منكن، لأنهن إذا طلقهن كان طلاقهن لسوء عشرتهن، واللواتي يبدلهن بهذه الأوصاف يكن خيراً منهن‏.‏ وبدأ في وصفهن بالإسلام، وهو الانقياد؛ ثم بالإيمان، وهو التصديق؛ ثم بالقنوت، وهو الطواعية؛ ثم بالتوبة، وهي الإقلاع عن الذنب؛ ثم بالعبادة، وهي التلذذ؛ ثم بالسياحة، وهي كناية عن الصوم، قاله أبو هريرة وابن عباس وقتادة والضحاك‏.‏ وقيل‏:‏ إن الرسول صلى الله عليه وسلم فسره بذلك، قاله أيضاً الحسن وابن جبير وزيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن‏.‏ قال الفراء والقتيبي‏:‏ سمي الصائم سائحاً لأن السائح لا زاد معه، وإنما يأكل من حيث يجد الطعام‏.‏ وقال زيد بن أسلم ويمان‏:‏ مهاجرات‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ ليس في الإسلام سياحة إلا الهجرة‏.‏ وقيل‏:‏ ذاهبات في طاعة الله‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ سائحات، وعمرو بن فائد‏:‏ سيحات، وهذه الصفات تجتمع، وأما الثيوبة والبكارة فلا يجتمعان، فلذلك عطف أحدهما على الآخر، ولو لم يأت بالواو لاختل المعنى‏.‏ وذكر الجنسين لأن في أزواجه صلى الله عليه وسلم من تزوجها بكراً، والثيب‏:‏ الراجع بعد زوال العذرة، يقال‏:‏ ثابت تثوب ثووباً، ووزنه فعيل كسيد‏.‏

ولما وعظ أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم موعظة خاصة، أتبع ذلك بموعظة عامة للمؤمنين وأهليهم، وعطف ‏{‏وأهليكم‏}‏ على ‏{‏أنفسكم‏}‏، لأن رب المنزل راع وهو مسؤول عن أهله‏.‏ ومعنى وقايتهم‏:‏ حملهم على طاعته وإلزامهم أداء ما فرض عليهم‏.‏ قال عمر‏:‏ يا رسول الله، نقي أنفسنا، فكيف لنا بأهلينا‏؟‏ قال‏:‏ «تنهونهن عما نهاكم الله تعالى عنه، وتأمرونهن بما أمركم الله به، فتكون ذلك وقاية بينهن وبين النار»، ودخل الأولاد في ‏{‏وأهليكم‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ دخلوا في ‏{‏أنفسكم‏}‏ لأن الولد بعض من أبيه، فيعلمه الحلال والحرام ويجنبه المعاصي‏.‏ وقرئ‏:‏ وأهلوكم بالواو، وهو معطوف على الضمير في ‏{‏قوا‏}‏ وحسن العطف للفصل بالمفعول‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ أليس التقدير قوا أنفسكم وليق أهلوكم أنفسهم‏؟‏ قلت‏:‏ لا، ولكن المعطوف مقارن في التقدير للواو وأنفسكم واقع بعده، فكأنه قيل‏:‏ قوا أنتم وأهلوكم أنفسكم‏.‏ لما جمعت مع المخاطب الغائب غلبته عليه‏.‏ فجعلت ضميرهما معاً على لفظ المخاطب‏.‏ انتهى‏.‏ وناقض في قوله هذا لأنه قدر وليق أهلوكم فجعله من عطف الجمل، لأن أهلوكم اسم ظاهرة لا يمكن عنده أن يرتفع بفعل الآمر الذي للمخاطب، وكذا في قوله‏:‏ ‏{‏اسكن أنت وزوجك الجنة‏}‏ ثم قال‏:‏ ولكن المعطوف مقارن في التقدير للواو، فناقض لأنه في هذا جعله مقارناً في التقدير للواو، وفيما قبله رفعه بفعل آخر غير الرافع للواو وهو وليق، وتقدم الخلاف في فتح الواو في قوله‏:‏ ‏{‏وقودها‏}‏ وضمها في البقرة‏.‏ وتفسير ‏{‏وقودها الناس والحجارة‏}‏ في البقرة ‏{‏عليها ملائكة‏}‏‏:‏ هي الزبانية التسعة عشر وأعوانهم‏.‏ ووصفهم بالغلظ، إما لشدة أجسامهم وقوتها، وإما لفظاظتهم لقوله‏:‏ ‏{‏ولو كنت فظاً غليظ القلب‏}‏ أي ليس فيهم رقة ولا حنة على العصاة‏.‏ وانتصب ‏{‏ما أمرهم‏}‏ على البدل، أي لا يعصون أمره لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفعصيت أمري‏}‏ أو على إسقاط حرف الجر‏.‏ أي فيما أمرهم ‏{‏ويفعلون ما يؤمرون‏}‏‏.‏ قيل‏:‏ كرر المعنى توكيداً‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ أليس الجملتان في معنى واحد‏؟‏ قلت‏:‏ لا فإن معنى الأولى‏:‏ أنهم يتقبلون أوامره ويلتزمونها ولا يأبونها ولا ينكرونها، ومعنى الثانية‏:‏ أنهم يودون ما يؤمرون، لا يتثاقلون عنه ولا يتوانون فيه‏.‏ ‏{‏لا تعتذروا‏}‏‏:‏ خطاب لهم عند دخولهم المنار، لأنهم لا ينفعهم الاعتذار، فلا فائدة فيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 12‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏8‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏9‏)‏ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ‏(‏10‏)‏ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏11‏)‏ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

ذكروا في النصوح أربعة وعشرين قولاً‏.‏ وروي عن عمر وعبد الله وأبي ومعاذ أنها التي لا عودة بعدها، كما لا يعود اللبن إلى الضرع، ورفعه معاذ إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏نصوحاً‏}‏ بفتح النون، وصفاً لتوبة، وهو من أمثلة المبالغة، كضروب وقتول‏.‏ وقرأ الحسن والأعرج وعيسى وأبو بكر عن عاصم، وخارجة عن نافع‏:‏ بضمها، هو مصدر وصف به، ووصفها بالنصح على سبيل المجاز، إذ النصح صفة التائب، وهو أن ينصح نفسه بالتوبة، فيأتي بها على طريقها، وهي خلوصها من جميع الشوائب المفسدة لها، من قولهم‏:‏ عسل ناصح، أي خالص من الشمع، أو من النصاحة وهي الخياطة، أي قد أحكمها وأوثقها، كما يحكم الخياط الثوب بخياطته وتوثيقه‏.‏

وسمع عليّ أعرابياً يقول‏:‏ اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك، فقال‏:‏ يا هذا إن سرعة اللسان بالتوبة توبة الكذابين، قال‏:‏ وما التوبة‏؟‏ قال‏:‏ يجمعها ستة أشياء‏:‏ على الماضي من الذنوب الندامة، وعلى الفرائض الإعادة، ورد المظالم واستحلال الخصوم، وأن يعزم على أن لا يعودوا، وأن تدئب نفسك في طاعة الله كما أدأبتها في المعصية، وأن تذيقها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعاصي‏.‏ وعن حذيفة‏:‏ بحسب الرجل من الشر أن يتوب من الذنب ثم يعود فيه‏.‏ انتهى‏.‏ ونصوحاً من نصح، فاحتمل وهو الظاهر أن تكون التوبة تنصح نفس التائب، واحتمل أن يكون متعلق النصح الناس، أي يدعوهم إلى مثلها لظهور أمرها على صاحبها‏.‏ وقرأ زيد بن علي‏:‏ توباً بغير تاء، ومن قرأ بالضم جاز أن يكون مصدراً وصف كما قدمناه، وجاز أن يكون مفعولاً له، أي توبوا لنصح أنفسكم‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ويدخلكم‏}‏ عطفاً على ‏{‏أن يكفر‏}‏‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ عطفاً على محل عسى أن يكفر، كأنه قيل‏:‏ توبوا يوجب تكفير سيآتكم ويدخلكم‏.‏ انتهى‏.‏ والأولى أن يكون حذف الحركة تخفيفاً وتشبيهاً لما هو من كلمتين بالكلمة الواحدة، تقول في قمع ونطع‏:‏ قمع ونطع‏.‏

‏{‏يوم لا يخزي‏}‏ منصوب بيدخلكم، ولا يخزي تعريض بمن أخزاهم الله من أهل الكفر، والنبي هو محمد رسول صلى الله عليه وسلم، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم تضرع إلى الله عز وجل في أمر أمته، فأوحى الله تعالى إليه‏:‏ إن شئت جعلت حسابهم إليك، فقال‏:‏ «يا رب أنت أرحم بهم»، فقال تعالى‏:‏ إذاً لا أخزيك فيهم‏.‏ وجاز أن يكون‏:‏ ‏{‏والذين‏}‏ معطوفاً على ‏{‏النبي‏}‏، فيدخلون في انتفاء الخزي‏.‏ وجاز أن يكون مبتدأ، والخبر ‏{‏نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم‏}‏‏.‏ وقرأ سهل بن شعيب وأبو حيوة‏:‏ وبإيمانهم بكسر الهمزة، وتقدم في الحديث‏.‏ ‏{‏يقولون ربنا أتمم لنا نورنا‏}‏‏.‏ قال ابن عباس والحسن‏:‏ يقولون ذلك إذا طفئ نور المنافقين‏.‏

وقال الحسن أيضاً‏:‏ يدعونه تقرباً إليه، كقوله‏:‏ ‏{‏واستغفر لذنبِك‏}‏ وهو مغفور له‏.‏ وقيل‏:‏ يقوله من يمر على الصراط زحفاً وحبوا‏.‏ وقيل‏:‏ يقوله من يعطى من النور مقدار ما يبصر به موضع قدميه‏.‏ ‏{‏يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين‏}‏‏:‏ تقدم نظير هذه الآية في التوبة‏.‏

‏{‏ضرب الله مثلاً للذين كفروا‏}‏‏:‏ ضرب تعالى المثل لهم بامرأة نوح وامرأة لوط في أنهم لا ينفعهم في كفرهم لحمة نسب ولا وصلة صهر، إذ الكفر قاطع العلائق بين الكافر والمؤمن، وإن كان المؤمن في أقصى درجات العلا‏.‏ ألا ترى إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح‏}‏ كما لم ينفع تينك المرأتين كونهما زوجتي نبيين‏.‏ وجاءت الكناية عن اسمهما العلمين بقوله‏:‏ ‏{‏عبدين من عبادنا‏}‏، لما في ذلك من التشريف بالإضافة إليه تعالى‏.‏ ولم يأت التركيب بالضمير عنهما، فيكون تحتهما لما قصد من ذكر وصفهما بقوله‏:‏ ‏{‏صالحين‏}‏، لأن الصلاح هو الوصف الذي يمتاز به من اصطفاه الله تعالى بقوله في حق إبراهيم عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏وإنه في الآخرة لمن الصالحين‏}‏ وفي قول يوسف عليه السلام‏:‏ ‏{‏وألحقني بالصالحين‏}‏ وقول سليمان عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين‏}‏ ‏{‏فخانتاهما‏}‏، وذلك بكفرهما وقول امرأة نوح عليه السلام‏:‏ هو مجنون، ونميمة امرأة لوط عليه السلام بمن ورد عليه من الأضياف، قاله ابن عباس‏.‏ وقال‏:‏ لم تزن امرأة نبي قط، ولا ابتلي في نسائه بالزنا‏.‏ قال في التحرير‏:‏ وهذا إجماع من المفسرين، وفي كتاب ابن عطية‏.‏ وقال الحسن في كتاب النقاش‏:‏ فخانتاهما بالكفر والزنا وغيره‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ولا يجوز أن يراد بالخيانة الفجور، لأنه سمج في الطباع نقيصة عند كل أحد، بخلاف الكفر، فإن الكفر يستسمجونه ويسمونه حقاً‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ خانتاهما بالنميمة، كان إذا أوحى إليه بشيء أفشتاه للمشركين، وقيل‏:‏ خانتاهما بنفاقهما‏.‏ قال مقاتل‏:‏ اسم امرأة نوح والهة، واسم امرأة لوط والعة‏.‏ ‏{‏فلم يغنيا‏}‏ بياء الغيبة، والألف ضمير نوح ولوط‏:‏ أي على قربهما منهما فرق بينهما الخيانة‏.‏ ‏{‏وقيل ادخلا النار‏}‏‏:‏ أي وقت موتهما، أو يوم القيامة؛ ‏{‏مع الداخلين‏}‏‏:‏ الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أو مع من دخلها من إخوانكما من قوم نوح وقوم لوط‏.‏ وقرأ مبشر بن عبيد‏:‏ تغنيا بالتاء، والألف ضمير المرأتين، ومعنى ‏{‏عنهما‏}‏‏:‏ عن أنفسهما، ولا بد من هذا المضاف إلا أن يجعل عن اسما، كهي في‏:‏ دع عنك، لأنها إن كانت حرفاً، كان في ذلك تعدية الفعل الرافع للضمير المتصل إلى ضمير المجرور، وهو يجري مجرى المنصوب المتصل، وذلك لا يجوز‏.‏

‏{‏وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون‏}‏‏:‏ مثل تعالى حال المؤمنين في أن وصلة الكفار لا تضرهم ولا تنقص من ثوابهم بحال امرأة فرعون، واسمها آسية بنت مزاحم، ولم يضرها كونها كانت تحت فرعون عدوّ الله تعالى والمدعي الإلهية، بل نجاها منه إيمانها؛ وبحال مريم، إذ أوتيت من كرامة الله تعالى في الدنيا والآخرة، والاصطفاء على نساء العالمين، مع أن قومها كانوا كفاراً‏.‏

‏{‏إذ قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة‏}‏‏:‏ هذا يدل على إيمانها وتصديقها بالبعث‏.‏ قيل‏:‏ كانت عمة موسى عليه السلام، وآمنت حين سمعت بتلقف عصاه ما أفك السحرة‏.‏ طلبت من ربها القرب من رحمته، وكان ذلك أهم عندها، فقدمت الظرف، وهو ‏{‏عندك بيتاً‏}‏، ثم بينت مكان القرب فقالت‏:‏ ‏{‏في الجنة‏}‏‏.‏ وقال بعض الظرفاء‏:‏ وقد سئل‏:‏ اين في القرآن مثل قولهم‏:‏ الجار قبل الدار‏؟‏ قال‏:‏ قوله تعالى ‏{‏ابن لي عندك بيتاً في الجنة‏}‏، فعندك هو المجاورة، وبيتاً في الجنة هو الدار، وقد تقدم ‏{‏عندك‏}‏ على قوله‏:‏ ‏{‏بيتًا‏}‏‏.‏ ‏{‏ونجني من فرعون‏}‏، قيل‏:‏ دعت بهذه الدعوات حين أمر فرعون بتعذيبها لما عرف إيمانها بموسى عليه السلام‏.‏ وذكر المفسرون أنواعاً مضطربة في تعذيبها، وليس في القرآن نصاً أنها عذبت‏.‏ وقال الحسن‏:‏ لما دعت بالنجاة، نجاها الله تعالى أكرم نجاة، فرفعها إلى الجنة تأكل وتشرب وتتنعم‏.‏ وقيل‏:‏ لما قالت‏:‏ ‏{‏ابن لي عندك بيتاً في الجنة‏}‏، أريت بيتها في الجنة يبنى، ‏{‏وعمله‏}‏، قيل‏:‏ كفره‏.‏ وقيل‏:‏ عذابه وظلمه وشماتته‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ الجماع‏.‏ ‏{‏ونجني من القوم الظالمين‏}‏، قال‏:‏ أهل مصر، وقال مقاتل‏:‏ القبط، وفي هذا دليل على الالتجاء إلى الله تعالى عند المحن وسؤال الخلاص منها، وإن ذلك من سنن الصالحين والأنبياء‏.‏

‏{‏ومريم‏}‏‏:‏ معطوف على امرأة فرعون، ‏{‏ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا‏}‏‏:‏ تقدم تفسير نظير هذه في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ابنت بفتح التاء؛ وأيوب السختياني‏:‏ ابنه بسكون الهاء وصلاً أجراه مجرى الوقف‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏فنفخنا فيه‏}‏‏:‏ أي في الفرج؛ وعبد الله‏:‏ فيها، كما في سورة الأنبياء، أي في الجملة‏.‏ وجمع تعالى في التمثيل بين التي لها زوج والتي لا زوج لها تسلية للأرامل وتطييباً لقلوبهن‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏وصدقت‏}‏ بشد الدال؛ ويعقوب وأبو مجلز وقتادة وعصمة عن عاصم‏:‏ بخفها، أي كانت صادقة بما أخبرت به من أمر عيسى عليه السلام، وما أظهر الله له من الكرامات‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ وكلماته جمعاً، فاحتمل أن تكون الصحف المنزلة على إدريس عليه السلام وغيره، وسماها كلمات لقصرها، ويكون المراد بكتبه‏:‏ الكتب الأربعة‏.‏ واحتمل أن تكون الكلمات‏:‏ ما كلم الله تعالى به ملائكته وغيرهم، وبكتبه‏:‏ جميع ما يكتب في اللوح وغيره‏.‏ واحتمل أن تكون الكلمات‏:‏ ما صدر في أمر عيسى عليه السلام‏.‏ وقرأ الحسن ومجاهد والجحدري‏:‏ بكلمة على التوحيد، فاحتمل أن يكون اسم جنس، واحتمل أن يكون كناية عن عيسى، لأنه قد أطلق عليه أنه كلمة الله ألقاها إلى مريم‏.‏

وقرأ أبو عمرو وحفص‏:‏ وكتبه جمعاً، ورواه كذلك خارجة عن نافع‏.‏ وقرأ باقي السبعة‏:‏ وكتابه على الإفراد، فاحتمل أن يراد به الجنس، وأن يراد به الإنجيل لا سيما إن فسرت الكلمة بعيسى‏.‏ وقرأ أبو رجاء‏:‏ وكتبه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ بسكون التاء وكتبه، وذلك كله مراد به التوراة والإنجيل‏.‏ وقال صاحب اللوامح أبو رجاء‏:‏ وكتبه بفتح الكاف، وهو مصدر أقيم مقام الاسم‏.‏ قال سهل‏:‏ وكتبه أجمع من كتابه، لأن فيه وضع المضاف موضع الجنس، فالكتب عام، والكتاب هو الإنجيل فقط‏.‏ انتهى‏.‏

‏{‏وكانت من القانتين‏}‏‏:‏ غلب الذكورية على التأنيث، والقانتين شامل للذكور والإناث، ومن للتبعيض‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن تكون لابتداء الغاية على أنها ولدت من القانتين، لأنها من أعقاب هارون أخي موسى، صلوات الله وسلامه عليهما، وقال يحيى بن سلام‏:‏ مثل ضربه الله يحذر به عائشة وحفصة من المخالفة حين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ضرب لهما مثلاً بامرأة فرعون ومريم ابنت عمران ترغيباً في التمسك بالطاعات والثبات على الدّين‏.‏ انتهى‏.‏ وأخذ الزمخشري كلام ابن سلام هذا وحسنه وزمكه بفصاحة فقال‏:‏ وفي طيّ هذين التمثيلين تعريض بأمّي المؤمنين المذكورتين في أول السورة، وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كرهه، وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشدّه لما في التمثيل من ذكر الكفر ونحوه‏.‏ ومن التغليظ قوله‏:‏ ‏{‏ومن كفر فإن الله غني عن العالمين‏}‏ وإشارة إلى أن من حقهما أن يكونا في الإخلاص والكتمان فيه كمثل هاتين المؤمنتين، وأن لا يشكلا على أنهما زوجتا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك الفضل لا ينقصهما إلا مع كونهما مخلصين‏.‏ والتعريض بحفصة أرج، لأن امرأة لوط أفشت عليه كما أفشت حفصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأسرار التنزيل ورموزه في كل باب بالغة من اللطف والخفاء حدّاً يدق عن تفطن العالم ويزل عن تبصره‏.‏ انتهى‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وقال بعض الناس‏:‏ إن في المثلين عبرة لزوجات النبي صلى الله عليه وسلم حين تقدم عتابهن، وفي هذا بعد، لأن النص أنه للكفار يبعد هذا، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

سورة الملك

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 15‏]‏

‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏1‏)‏ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ‏(‏2‏)‏ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ‏(‏3‏)‏ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ‏(‏4‏)‏ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ ‏(‏5‏)‏ وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏6‏)‏ إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ ‏(‏7‏)‏ تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ‏(‏8‏)‏ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ ‏(‏9‏)‏ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ ‏(‏10‏)‏ فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ ‏(‏11‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ‏(‏12‏)‏ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏13‏)‏ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ‏(‏14‏)‏ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ‏(‏15‏)‏‏}‏

قال‏:‏ ‏{‏تبارك‏}‏‏:‏ أي تعالى وتعاظم، ‏{‏الذي بيده الملك‏}‏‏:‏ وهو كناية عن الإحاطة والقهر، وكثيراً ما جاء نسبة اليد إليه تعالى كقوله‏:‏ ‏{‏فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء‏}‏ ‏{‏بيدك الخير‏}‏ وذلك في حقه تعالى استعارة لتحقيق الملك، إذ كانت في عرف الآدميين آلة للتملك، والملك هنا هو على الإطلاق لا يبيد ولا يختل‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ ملك الملوك لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل اللهم مالك الملك‏}‏ وناسب الملك ذكر وصف القدرة والحياة ما يصح بوجوده الإحساس‏.‏ ومعنى ‏{‏خلق الموت‏}‏‏:‏ إيجاد ذلك المصحح وإعدامه، والمعنى‏:‏ خلق موتكم وحياتكم أيها المكلفون، وسمى علم الواقع منهم باختيارهم بلوى وهي الحيرة، استعارة من فعل المختبر‏.‏ وفي الحديث أنه فسر ‏{‏أيكم أحسن عملاً‏}‏‏:‏ أي أحسن عقلاً وأشدّكم خوفاً وأحسنكم في أمره ونهيه نظراً، وإن كان أقلكم تطوعاً‏.‏ وعن ابن عباس والحسن والثوري‏:‏ أزهدكم في الدنيا‏.‏ وقيل‏:‏ كنى بالموت عن الدنيا، إذ هو واقع فيها، وعن الآخرة بالحياة من حيث لا موت فيها، فكأنه قال‏:‏ هو الذي خلق الدنيا والآخرة، وصفهما بالمصدرين، وقدّم الموت لأنه أهيب في النفوس‏.‏ وليبلوكم متعلق بخلق‏.‏ ‏{‏وإيكم أحسن عملاً‏}‏ مبتدأ وخبر، فقدر الحوفي قبلها فعلاً تكون الجملة في موضع معموله، وهو معلق عنها تقديره‏:‏ فينظر، وقدّر ابن عطية فينظر أو فيعلم‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ من أين تعلق قوله‏:‏ ‏{‏أيكم أحسن عملاً‏}‏ بفعل البلوى‏؟‏ قلت‏:‏ من حيث أنه تضمن معنى العلم، فكأنه قيل‏:‏ ليعلمكم أيكم أحسن عملاً، وإذا قلت‏:‏ علمته أزيد أحسن عملاً أم هو‏؟‏ كانت هذه الجملة واقعة موقع الثاني من مفعوليه، كما تقول‏:‏ علمته هو أحسن عملاً‏.‏ فإن قلت‏:‏ أيسمى هذا تعليقاً‏؟‏ قلت‏:‏ لا، إنما التعليق أن توقع بعده ما يسد مسدّ المفعولين جميعاً، كقولك‏:‏ علمت أيهما عمرو، وعلمت أزيد منطلق‏.‏ ألا ترى أنه لا فصل بعد سبق أحد المفعولين بين أن يقع ما بعده مصدّراً بحرف الاستفهام وغير مصدّر به‏؟‏ ولو كان تعليقاً لافترقت الحالتان، كما افترقتا في قولك‏:‏ علمت أزيد منطلق، وعلمت زيداً منطلقاً‏.‏ انتهى‏.‏ وأصحابنا يسمون ما منعه الزمخشري تعليقاً، فيقولون في الفعل إذا عدى إلى اثنين ونصب الأول، وجاءت بعده جملة استفهامية، أو بلام الابتداء، أو بحرف نفي، كانت الجملة معلقاً عنها الفعل، وكانت في موضع نصب، كما لو وقعت في موضع المفعولين وفيها ما يعلق الفعل عن العمل‏.‏ وقد تقدّم الكلام على مثل هذه الجملة في الكهف في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لنبلوهم أيهم أحسن عملاً‏}‏، وانتصب ‏{‏طباقاً‏}‏ على الوصف السبع، فإما أن يكون مصدر طابق مطابقة وطباقاً لقولهم‏:‏ النعل خصفها طبقاً على طبق، وصف به على سبيل المبالغة، أو على حذف مضاف، أي ذا طباق؛ وإما جمع طبق كجمل وجمال، أو جمع طبقة كرحبة ورحاب، والمعنى‏:‏ بعضها فوق بعض‏.‏

وما ذكر من مواد هذه السموات‏.‏ فالأولى من موج مكفوف، والثانية من درّة بيضاء، والثالثة من حديد، والرابعة من نحاس، والخامسة من فضة، والسادسة من ذهب، والسابعة من زمردة بيضاء يحتاج إلى نقل صحيح، وقد كان بعض من ينتمي إلى الصلاح، وكان أعمى لا يبصر موضع قدمه، يخبر أنه يشاهد السموات على بعض أوصاف مما ذكرنا‏.‏ ‏{‏من تفاوت‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ من تفرّق‏.‏ وقال السدّي‏:‏ من عيب‏.‏ وقال عطاء بن يسار‏:‏ من عدم استواء‏.‏ وقال ثعلب‏:‏ أصله من الفوت، وهو أن يفوت شيء شيئاً من الخلل‏.‏ وقيل‏:‏ من اضطراب‏.‏ وقيل‏:‏ من اعوجاج‏.‏ وقيل‏:‏ من تناقض‏.‏ وقيل‏:‏ من اختلاف‏.‏ وقيل‏:‏ من عدم التناسب والتفاوت، تجاوز الحد الذي تجب له زيادة أو نقص‏.‏ قال بعض الأدباء‏:‏

تناسبت الأعضاء فيه فلا ترى *** بهن اختلافاً بل أتين على قدر

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏من تفاوت‏}‏، بألف مصدر تفاوت؛ وعبد الله وعلقمة والأسود وابن جبير وطلحة والأعمش‏:‏ بشدّ الواو، مصدر تفوّت‏.‏ وحكى أبو زيد عن العربي‏:‏ تفاوتاً بضم الواو وفتحها وكسرها، والفتح والكسر شاذان‏.‏ والظاهر عموم خلق الرحمن من الأفلاك وغيرها، فإنه لا تفوت فيه ولا فطور، بل كل جار على الإتقان‏.‏ وقيل‏:‏ المراد في ‏{‏خلق الرحمن‏}‏ السموات فقط، والظاهر أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما ترى‏}‏ استئناف أنه لا يدرك في خلقه تعالى تفاوت، وجعل الزمخشري هذه الجملة صفة متابعة لقوله‏:‏ ‏{‏طباقاً‏}‏، أصلها ما ترى فيهن من تفاوت، فوضع مكان الضمير قوله‏:‏ ‏{‏خلق الرحمن‏}‏ تعظيماً لخلقهن وتنبيهاً على سبب سلامتهن من التفاوت، وهو أنه خلق الرحمن، وأنه بباهر قدرته هو الذي يخلق مثل ذلك الخلق المناسب‏.‏ انتهى‏.‏ والخطاب في ترى لكل مخاطب، أو للرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ ولما أخبر تعالى أنه لا تفاوت في خلقه، أمر بترديد البصر في الخلق المناسب فقال‏:‏ ‏{‏فارجع‏}‏، ففي الفاء معنى التسبب، والمعنى‏:‏ أن العيان يطابق الخبر‏.‏ و‏{‏الفطور‏}‏، قال مجاهد‏:‏ الشقوق، فطر ناب البعير‏:‏ شق اللحم وظهر، قال الشاعر‏:‏

بنى لكم بلا عمد سماء *** وسوّاها فما فيها فطور

وقال أبو عبيدة‏:‏ صدوع، وأنشد قول عبيد بن مسعود‏:‏

شققت القلب ثم رددت فيه *** هواك فليط فالتأم الفطور

وقال السدي‏:‏ خروق‏.‏ وقال قتادة‏:‏ خلل، ومنه التفطير والانفطار‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ وهن وهذه تفاسير متقاربة، والجملة من قوله‏:‏ ‏{‏هل ترى من فطور‏}‏ في موضع نصب بفعل معلق محذوف، أي فانظر هل ترى، أو ضمن معنى ‏{‏فارجع البصر‏}‏ معنى فانظر ببصرك هل ترى‏؟‏ فيكون معلقاً‏.‏ ‏{‏ثم ارجع البصر‏}‏‏:‏ أي ردده كرتين هي تثنية لا شفع الواحد، بل يراد بها التكرار، كأنه قال‏:‏ كرة بعد كرة، أي كرات كثيرة، كقوله‏:‏ لبيك، يريد إجابات كثيرة بعضها في إثر بعض، وأريد بالتنثية التكثير، كما أريد بما هو أصل لها التكثير، وهو مفرد عطف على مفرد، نحو قوله‏:‏

لو عدّ قبر وقبر كان أكرمهم *** بيتاً وأبعدهم عن منزل الزام

يريد‏:‏ لوعدت قبور كثيرة‏.‏ وقال ابن عطية وغيره‏:‏ ‏{‏كرتين‏}‏ معناه مرتين ونصبها على المصدر‏.‏ وقيل‏:‏ أمر برجع البصر إلى السماء مرتين، غلط في الأولى، فيستدرك بالثانية‏.‏ وقيل‏:‏ الأولى ليرى حسنها واستواءها، والثانية ليبصر كواكبها في سيرها وانتهائها‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ينقلب‏}‏ جزماً على جواب الأمر؛ والخوارزمي عن الكسائي‏:‏ يرفع الباء، أي فينقلب على حذف الفاء، أو على أنه موضع حال مقدرة، أي إن رجعت البصر وكررت النظر لتطلب فطور شقوق أو خللاً أو عيباً، رجع إليك مبعداً عما طلبته لانتفاء ذلك عنها، وهو كالّ من كثرة النظر، وكلاله يدل على أن المراد بالكرتين ليس شفع الواحد، لأنه لا يكل البصر بالنظر مرتين اثنتين‏.‏ والحسير‏:‏ الكال، قال الشاعر‏:‏

لهن الوجى لم كر عوناً على النوى *** ولا زال منها ظالع وحسير

يقال‏:‏ حسر بعيره يحسر حسوراً‏:‏ أي كلّ وانقطع فهو حسير ومحسور، قال الشاعر يصف ناقة‏:‏

فشطرها نظر العينين محسور *** أي‏:‏ ونحرها، وقد جمع حسير بمعنى أعيا وكل، قال الشاعر‏:‏

بها جيف الحسرى فأما عظامها *** البيت‏.‏

‏{‏السماء الدنيا‏}‏‏:‏ هي التي نشاهدها، والدنو أمر نسبي وإلا فليست قريبة، ‏{‏بمصابيح‏}‏‏:‏ أي بنجوم مضيئة كالمصابيح، ومصابيح مطلق الأعلام، فلا يدل على أن غير سماء الدنيا ليست فيها مصابيح‏.‏ ‏{‏وجعلناها رجوماً للشياطين‏}‏‏:‏ أي جعلنا منها، لأن السماء ذاتها ليست يرجم بها الرجوم هذا إن عاد الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏وجعلناها‏}‏ على السماء‏.‏ والظاهر عوده على مصابيح‏.‏ ونسب الرجم إليها، لأن الشهاب المتبع للمسترق منفصل من نارها، والكواكب قارّ في ملكه على حاله‏.‏ فالشهاب كقبس يؤخذ من النار، والنار باقية لا تنقص‏.‏ والظاهر أن الشياطين هم مسترقو السمع، وأن الرجم هو حقيقة يرمون بالشهب، كما تقدم في سورة الحجر وسورة والصافات‏.‏ وقيل‏:‏ معنى رجوماً‏:‏ ظنوناً لشياطين الإنس، وهم المنجمون ينسبون إلى النجوم أشياء على جهة الظن من جهالهم، والتمويه والاختلاق من أزكيائهم، ولهم في ذلك تصانيف تشتمل على خرافات يموهون بها على الملوك وضعفاء العقول، ويعملون موالد يحكمون فيها بالأشياء لا يصح منها شيء‏.‏ وقد وقفنا على أشياء من كذبهم في تلك الموالد، وما يحكونه عن أبي معشر وغيره من شيوخ السوء كذب يغرون به الناس الجهال‏.‏ وقال قتادة‏:‏ خلق الله تعالى النجوم زينة للسماء ورجوماً للشياطين، وليهتدي بها في البر والبحر؛ فمن قال غير هذه الخصال الثلاث فقد تكلف وأذهب حظه من الآخرة‏.‏ والضمير في لهم عائد على الشياطين‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏عذاب جهنم‏}‏ برفع الباء؛ والضحاك والأعرج وأسيد بن أسيد المزني والحسن في رواية هارون عنه‏:‏ بالنصب عطفاً على ‏{‏عذاب السعير‏}‏، أي وأعتدنا للذين كفروا عذاب جهنم‏.‏

‏{‏إذا ألقوا فيها‏}‏‏:‏ أي طرحوا، كما يطرح الحطب في النار العظيمة ويرمى به، ومثله حصب جهنم، ‏{‏سمعوا لها‏}‏‏:‏ أي لجهنم، ‏{‏شهيقاً‏}‏‏:‏ أي صوتاً منكراً كصوت الحمار، تصوت مثل ذلك لشدة توقدها وغليانها‏.‏ ويحتمل أن يكون على حذف مضاف، أي سمعوا لأهلها، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لهم فيها زفير وشهيق‏}‏ ‏{‏وهي تفور‏}‏‏:‏ تغلي بهم غلي المرجل‏.‏ ‏{‏تكاد تميز‏}‏‏:‏ أي ينفصل بعضها من بعض لشدة اضطرابها، ويقال‏:‏ فلان يتميز من الغيظ إذا وصفوه بالإفراط في الغضب‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏تميز‏}‏ بتاء واحدة خفيفة، والبزي يشدّدها، وطلحة‏:‏ بتاءين، وأبو عمرو‏:‏ بإدغام الدال في التاء، والضحاك‏:‏ تمايز على وزن تفاعل، وأصله تتمايز بتاءين؛ وزيد بن علي وابن أبي عبلة‏:‏ تميز من ماز من الغيظ على الكفرة، جعلت كالمغتاظة عليهم لشدة غليانها بهم، ومثل هذا في التجوز قول الشاعر‏:‏

في كلب يشتد في جريه *** يكاد أن يخرج من إهابه

وقولهم‏:‏ غضب فلان، فطارت منه شقة في الأرض وشقة في السماء إذا أفرط في الغضب‏.‏ ويجوز أن يراد من غيظ الزبانية‏.‏ ‏{‏كلما ألقي فيها فوج‏}‏‏:‏ أي فريق من الكفار، ‏{‏سألهم خزنتها‏}‏‏:‏ سؤال توبيخ وتقريع، وهو مما يزيدهم عذاباً إلى عذابهم، وخزنتها‏:‏ مالك وأعوانها، ‏{‏ألم يأتكم نذير‏}‏‏:‏ ينذركم بهذا اليوم، ‏{‏قالوا بلى‏}‏‏:‏ اعتراف بمجيء النذر إليهم‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ اعتراف منهم بعدل الله، وإقرار بأنه عز وعلا أزاح عللهم ببعثة الرسل وإنذارهم فيما وقعوا فيه، وأنهم لم يؤتوا من قدره كما تزعم المجبرة، وإنما أتوا من قبل أنفسهم واختيارهم، خلاف ما اختار الله وأمر به وأوعد على ضده‏.‏ انتهى، وهو على طريق المعتزلة‏.‏ والظاهر أن قوله‏:‏ ‏{‏إن أنتم إلا في ضلال كبير‏}‏، من قول الكفار للرسل الذين جاءوا نذراً إليهم، أنكروا أولاً أن الله نزل شيئاً، واستجهلوا ثانياً من أخبر بأنه تعالى أرسل إليهم الرسل، وأن قائل ذلك في حيرة عظيمة‏.‏ ويجوز أن يكون من قول الخزنة للكفار إخباراً لهم وتقريعاً بما كانوا عليه في الدنيا‏.‏ أرادوا بالضلال الهلاك الذي هم فيه، أوسموا عقاب الضلال ضلالاً لما كان ناشئاً عن الضلال‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ أو من كلام الرسل لهم حكوه للخزنة، أي قالوا لنا هذا فلم نقبله‏.‏ انتهى‏.‏ فإن كان الخطاب في ‏{‏إن أنتم‏}‏ للرسل، فقد يراد به الجنس، ولذلك جاء الخطاب بالجمع‏.‏ ‏{‏وقالوا‏}‏‏:‏ أي للخزنة حين حاوروهم، ‏{‏لو كنا نسمع‏}‏ سماع طالب للحق، ‏{‏أو نعقل‏}‏‏.‏ عقل متأمل له، لم نستوجب الخلود في النار‏.‏ ‏{‏فاعترفوا بذنبهم‏}‏‏:‏ أي بتكذيب الرسل، ‏{‏فسحقاً‏}‏‏:‏ أي فبعداً لهم، وهو دعاء عليهم، والسحق‏:‏ البعد، وانتصابه على المصدر‏:‏ أي سحقهم الله سحقاً، قال الشاعر‏:‏

يجول بأطراف البلاد مغرباً *** وتسحقه ريح الصبا كل مسحق

والفعل منه ثلاثي‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ أي أسحقهم الله سحقاً، أي باعدهم بعداً‏.‏ وقال أبو علي الفارسي‏:‏ القياس إسحاقاً، فجاء المصدر على الحذف، كما قيل‏:‏

وإن أهلك فذلك كان قدري *** أي تقديري‏.‏ انتهى، ولا يحتاج إلى ادعاء الحذف في المصدر لأن فعله قد جاء ثلاثياً، كما أنشد‏:‏

وتسحقه ريح الصبا كل مسحق *** وقرأ الجمهور‏:‏ بسكون الحاء؛ وعلي وأبو جعفر والكسائي، بخلاف عن أبي الحرث عنه‏:‏ بضمها‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ ‏{‏فسحقاً‏}‏‏:‏ نصباً على جهة الدعاء عليهم، وجاز ذلك فيه، وهو من قبل الله تعالى من حيث هذا القول فيهم مستقر أولاً، ووجوده لم يقع إلا في الآخرة، فكأنه لذلك في حيز المتوقع الذي يدعى به، كما تقول‏:‏ سحقاً لزيد وبعداً، والنصب في هذا كله بإضمار فعل، وإن وقع وثبت، فالوجه فيه الرفع، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويل للمطففين‏}‏ و‏{‏سلام عليكم‏}‏ وغير هذا من الأمثلة‏.‏ انتهى‏.‏ ‏{‏يخشون ربهم بالغيب‏}‏‏:‏ أي الذي أخبروا به من أمر المعاد وأحواله، أو غائبين عن أعين الناس، أي في خلواتهم، كقوله‏:‏ ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه‏.‏ ‏{‏وأسروا قولكم‏}‏‏:‏ خطاب لجميع الخلق‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ وسببه أن بعض المشركين قال لبعض‏:‏ أسروا قولكم لا يسمعكم إله محمد‏.‏ ‏{‏ألا يعلم من خلق‏}‏‏:‏ الهمزة للاستفهام ولا للنفي، والظاهر أن من مفعول، والمعنى‏:‏ أينتفي علمه بمن خلق، وهو الذي لطف علمه ودق وأحاط بخفيات الأمور وجلياتها‏؟‏ وأجاز بعض النحاة أن يكون من فاعلاً والمفعول محذوف، كأنه قال‏:‏ ألا يعلم الخالق سركم وجهركم‏؟‏ وهو استفهام معناه الإنكار، أي كيف لا يعلم ما تكلم به من خلق الأشياء وأوجدها من العدم الصرف وحاله أنه اللطيف الخبير المتوصل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن‏؟‏

‏{‏هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً‏}‏‏:‏ منة منه تعالى بذلك، والذلول فعول للمبالغة، من ذلك تقول‏:‏ دابة ذلول‏:‏ بينة الذل، ورجل ذليل‏:‏ بين الذل‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ والذلول فعول بمعنى مفعول، أي مذلولة، فهي كركوب وحلوب‏.‏ انتهى‏.‏ وليس بمعنى مفعول لأن فعله قاصر، وإنما تعدى بالهمزة كقوله‏:‏ ‏{‏وتذل من تشاء‏}‏ وأما بالتضعيف لقوله‏:‏ ‏{‏وذللناها لهم‏}‏ وقوله‏:‏ أي مذلولة يظهر أنه خطأ‏.‏ ‏{‏فامشوا في مناكبها‏}‏‏:‏ أمر بالتصرف فيها والاكتساب؛ ومناكبها، قال ابن عباس وقتادة وبشر بن كعب‏:‏ أطرافها، وهي الجبال‏.‏ وقال الفراء والكلبي ومنذر بن سعيد‏:‏ جوانبها، ومنكبا الرجل‏:‏ جانباه‏.‏ وقال الحسن والسدي‏:‏ طرفها وفجاجها‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ والمشي في مناكبها مثل لفرط التذليل ومجازوته الغاية، لأن المنكبين وملتقاهما من الغارب أرق شيء من البعير وأنبأه عن أن يطأه الراكب بقدمه ويعتمد عليه، فإذا جعلها في الذل بحيث يمشي في مناكبها لم ينزل‏.‏ انتهى‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ سهل لكم السلوك في جبالها فهو أبلغ التذليل‏.‏ ‏{‏وإليه النشور‏}‏‏:‏ أي البعث، فسألكم عن شكر هذه النعمة عليكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 30‏]‏

‏{‏أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ ‏(‏16‏)‏ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ‏(‏17‏)‏ وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ‏(‏18‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ ‏(‏19‏)‏ أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ ‏(‏20‏)‏ أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ ‏(‏21‏)‏ أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏22‏)‏ قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ‏(‏23‏)‏ قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏24‏)‏ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏25‏)‏ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏26‏)‏ فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ ‏(‏27‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏28‏)‏ قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏29‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ ‏(‏30‏)‏‏}‏

قرأ نافع وأبو عمرو والبزي‏:‏ ‏{‏أأمنتم‏}‏ بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية، وأدخل أبو عمرو وقالون بينهما ألفاً، وقنبل‏:‏ بإبدال الأولى واواً لضمة ما قبلها، وعنه وعن ورش أوجه غير هذه؛ والكوفيون وابن عامر بتحقيقهما‏.‏ ‏{‏من في السماء‏}‏‏:‏ هذا مجاز، وقد قام البرهان العقلي على أن تعالى ليس بمتحيز في جهة، ومجازه أن ملكوته في السماء لأن في السماء هو صلة من، ففيه الضمير الذي كان في العامل فيه، وهو استقر، أي من في السماء هو، أي ملكوته، فهو على حذف مضاف، وملكوته في كل شيء‏.‏ لكن خص السماء بالذكر لأنها مسكن ملائكته وثم عرشه وكرسيه واللوح المحفوظ، ومنها تنزل قضاياه وكتبه وأمره ونهيه، أو جاء هذا على طريق اعتقادهم، إذ كانوا مشبهة، فيكون المعنى‏:‏ أأمنتم من تزعمون أنه في السماء‏؟‏ وهو المتعالي عن المكان‏.‏ وقيل‏:‏ من على حذف مضاف، أي خالق من في السماء‏.‏ وقيل‏:‏ من هم الملائكة‏.‏ وقيل‏:‏ جبريل، وهو الملك الموكل بالخسف وغيره‏.‏ وقيل‏:‏ من بمعنى على، ويراد بالعلو القهر والقدرة لا بالمكان، وفي التحرير‏:‏ الاجماع منعقد على أنه ليس في السماء بمعنى الاستقرار، لأن من قال من المشبهة والمجسمة أنه على العرش لا يقول بأنه في السماء‏.‏ ‏{‏أن يخسف بكم الأرض‏}‏ وهو ذهابها سفلاً، ‏{‏فإذا هي تمور‏}‏‏:‏ أي تذهب أو تتموج، كما يذهب التراب في الريح‏.‏ وقد تقدم شرح الحاصب في سورة الإسراء، والنذير والنكير مصدران بمعنى الإنذار والإنكار، وقال حسان بن ثابت‏:‏

فأنذر مثلها نصحاً قريشا *** من الرحمن إن قبلت نذيرا

وأثبت ورش ياء نذيري ونكيري، وحذفها باقي السبعة‏.‏ ولما حذرهم ما يمكن إحلاله بهم من الخسف وإرسال الحاصب، نبههم على الاعتبار بالطير وما أحكم من خلقها، وعن عجز آلهتهم عن شيء من ذلك، وناسب ذلك الاعتبار بالطير، إذ قد تقدمه ذكر الحاصب، وقد أهلك الله أصحاب الفيل بالطير والحاصب الذي رمتهم به، ففيه إذكار قريش بهذه القصة، وأنه تعالى لو شاء لأهلكهم بحاصب ترمي به الطير، كما فعل بأصحاب الفيل‏.‏ ‏{‏صافات‏}‏‏:‏ باسطة أجنحتها صافتها حتى كأنها ساكنة، ‏{‏ويقبضن‏}‏‏:‏ ويضممن الأجنحة إلى جوانبهن، وهاتان حالتان للطائر يستريح من إحداهما إلى الأخرى‏.‏ وعطف الفعل على الاسم لما كان في معناه، ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فالمغيرات صبحاً فأثرن‏}‏ عطف الفعل على الاسم لما كان المعنى‏:‏ فاللاتي أغرن صبحاً فأثرن، ومثل هذا العطف فصيح، وعكسه أيضاً جائز إلا عند السهيلي فإنه قبيح، نحو قوله‏:‏

بات يغشيها بغضب باتر *** يقصد في أسوقها وجائر

أي‏:‏ قاصد في أسوقها وجائر‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ‏{‏صافات‏}‏‏:‏ باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها، لأنهن إذا بسطنها صففن قوادمها صفاً، ‏{‏ويقبضن‏}‏‏:‏ ويضمنها إذا ضربن بها جنوبهن‏.‏

فإن قلت‏:‏ لم قيل ‏{‏ويقبضن‏}‏، ولم يقل‏:‏ وقابضات‏؟‏ قلت‏:‏ أصل الطيران هو صف الأجنحة، لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء، والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها‏.‏ وأما القبض فطارئ على البسط للاستظهار به على التحرك، فجيء بما هو طارئ غير أصل بلفظ الفعل على معنى أنهن صافات، ويكون منهن القبض تارة بعد تارة، كما يكون من السابح‏.‏ انتهى‏.‏ وملخصه أن الغالب هو البسط، فكأنه هو الثابت، فعبر عنه بالاسم‏.‏ والقبض متجدد، فعبر عنه بالفعل ب ‏{‏ما يمسكهن إلا الرحمن‏}‏‏:‏ أي بقدرته‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ وبما دبر لهن من القوادم والخوافي، وبنى الأجسام على شكل وخصائص قد يأتي منها الجري في الجو ‏{‏إنه بكل شيء بصير‏}‏‏:‏ يعلم كيف يخلق وكيف يدبر العجائب‏.‏ انتهى، وفيه نزوع إلى قول أهل الطبيعة‏.‏ ونحن نقول‏:‏ إن أثقل الأشياء إذا أراد إمساكها في الهواء واستعلاءها إلى العرش كان ذلك، وإذا أراد إنزال ما هو أخف سفلاً إلى منتهى ما ينزل كان، وليس ذلك معذوقاً بشكل، لا من ثقل ولا خفة‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ما يمسكهن مخففاً‏.‏ والزهري مشدداً‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏من‏}‏، بإدغام ميم أم في ميم من، إذ الأصل أم من، وأم هنا بمعنى بل خاصة لأن الذي بعدها هو اسم استفهام في موضع رفع على الابتداء، وهذا خبر، والمعنى‏:‏ من هو ناصركم إن ابتلاكم بعذابه؛ وكذلك من هو رازقكم أن أمسك رزقه، والمعنى‏:‏ لا أحد ينصركم ولا يرزقكم‏.‏ وقرأ طلحة‏:‏ أمن بتخفيف الميم ونقلها إلى الثانية كالجماعة‏.‏ قال صاحب اللوامح‏:‏ ومعناه‏:‏ أهذا الذي هو جند لكم ينصركم، أم الذي يرزقكم‏؟‏ فلفظه لفظ الاستفهام، ومعناه التقريع والتوبيخ‏.‏ انتهى‏.‏ ‏{‏بل لجوا‏}‏‏:‏ تمادوا، ‏{‏في عتو‏}‏‏:‏ في تكبر وعناد، ‏{‏ونفور‏}‏‏:‏ شراد عن الحق لثقله عليهم‏.‏ وقيل‏:‏ هذا إشارة إلى أصنامهم‏.‏

‏{‏أفمن يمشي مكباً على وجهه‏}‏، قال قتادة نزلت مخبرة عن حال القيامة، وأن الكفار يمشون فيها على وجوههم، والمؤمنون يمشون على استقامة‏.‏ وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ كيف يمشى الكافر على وجهه‏؟‏ فقال‏:‏ «إن الذي أمشاه في الدنيا على رجليه قادر أن يمشيه في الآخرة على وجهه» فالمشي على قول قتادة حقيقة‏.‏ وقيل‏:‏ هو مجاز، ضرب مثلاً للكافر والمؤمن في الدنيا‏.‏ فقيل‏:‏ عام، وهو قول ابن عباس ومجاهد والضحاك، نزلت فيهما‏.‏ وقال ابن عباس أيضاً‏:‏ نزلت في أبي جهل والرسول عليه الصلاة والسلام‏.‏ وقيل‏:‏ في أبي جهل وحمزة، والمعنى أن الكافر في اضطرابه وتعسفه في عقيدته وتشابه الأمر عليه، كالماضي في انخفاض وارتفاع، كالأعمى يتعثر كل ساعة فيخر لوجهه‏.‏ وأما المؤمن، فإنه لطمأنينة قلبه بالإيمان، وكونه قد وضح له الحق، كالماشي صحيح البصر مستوياً لا ينحرف على طريق واضح الاستقامة لا حزون فيها، فآلة نظره صحيحة ومسلكه لا صعوبة فيه‏.‏

و ‏{‏مكباً‏}‏‏:‏ حال من أكب، وهو لا يتعدى، وكب متعد، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فكبت وجوههم في النار‏}‏ والهمزة فيه للدخول في الشيء أو للصيرورة، ومطاوع كب انكب، تقول‏:‏ كببته فانكب‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ولا شيء من بناء افعل مطوعاً، ولا يتقن نحو هذا إلا حملة كتاب سيبويه، وهذا الرجل كثير التبجح بكتاب سيبويه، وكم من نص في كتاب سيبويه عمى بصره وبصيرته حتى أن الإمام أبا الحجاج يوسف بن معزوز صنف كتاباً يذكر فيه ما غلط فيه الزمخشري وما جهله من نصوص كتاب سيبويه‏.‏ وأهدي‏:‏ افعل تفضيل من الهدى في الظاهر، وهو نظير‏:‏ العسل أحلى أم الخل‏؟‏ وهذا الاستفهام لا تراد حقيقته، بل المراد منه أن كل سامع يجيب بأن الماشي سوياً على صراط مستقيم أهدى‏.‏ وانتصب ‏{‏قليلاً‏}‏ على أنه نعت لمصدر محذوف، وما زائدة، وتشكرون مستأنف أو حال مقدرة، أي تشكرون شكراً قليلاً‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ظاهر أنهم يشكرون قليلاً، وما عسى أن يكون للكافرين شكر، وهو قليل غير نافع‏.‏ وأما أن يريد به نفي الشكر جملة فعبر بالقلة، كما تقول العرب‏:‏ هذه أرض قلّ ما تنبت كذا، وهي لا تنبته ألبتة‏.‏ انتهى‏.‏ وتقدم نظير قوله والرد عليه في ذلك‏.‏ ‏{‏ذرأكم‏}‏‏:‏ بثكم، والحشر‏:‏ البعث، والوعد المشار إليه هو وعد يوم القيامة، أي متى إنجاز هذا الوعد‏؟‏‏.‏

‏{‏فلما رأوه زلفة‏}‏‏:‏ أي رأوا العذاب وهو الموعود به، ‏{‏زلفة‏}‏‏:‏ أي قرباً، أي ذا قرب‏.‏ وقال الحسن‏:‏ عياناً‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ حاضراً‏.‏ وقيل‏:‏ التقدير مكاناً ذا زلفة، فانتصب على الظرف‏.‏ ‏{‏سيئت‏}‏‏:‏ أي ساءت رؤيته وجوههم، وظهر فيها السوء والكآبة، وغشيها السواد كمن يساق إلى القتل‏.‏ وأخلص الجمهور كسرة السين، وأشمها الضم أبو جعفر والحسن وأبو رجاء وشيبة وابن وثاب وطلحة وابن عامر ونافع والكسائي‏.‏ ‏{‏وقيل‏}‏ لهم، أي تقول لهم الزبانية ومن يوبخهم‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏تدعون‏}‏ بشد الدال مفتوحة، فقيل‏:‏ من الدعوى‏.‏ قال الحسن‏:‏ تدعون أنه لا جنة ولا نار‏.‏ وقيل‏:‏ تطلبون وتستعجلون، وهو من الدعاء، ويقوي هذا القول قراءة أبي رجاء والضحاك والحسن وقتادة وابن يسار عبد الله بن مسلم وسلام ويعقوب‏:‏ تدعون بسكون الدال، وهي قراءة ابن أبي عبلة وأبي زيد وعصمة عن أبي بكر والأصمعي عن نافع‏.‏ روي أن الكفار كانوا يدعون على الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالهلاك‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا يتآمرون بينهم بأن يهلكوهم بالقتل ونحوه، فأمر أن يقول‏:‏ ‏{‏إن أهلكني الله‏}‏ كما تريدون، ‏{‏أو رحمنا‏}‏ بالنصر عليكم، فمن يحميكم من العذاب الذي سببه كفركم‏؟‏ ولما قال‏:‏ ‏{‏أو رحمنا‏}‏ قال‏:‏ ‏{‏هو الرحمن‏}‏، ثم ذكر ما به النجاة وهو الإيمان والتفويض إلى الله تعالى‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏فستعلمون‏}‏ بتاء الخطاب، والكسائي‏:‏ بياء الغيبة نظراً إلى قوله‏:‏ ‏{‏فمن يجير الكافرين‏}‏ ولما ذكر العذاب، وهو مطلق، ذكر فقد ما به حياة النفوس وهو الماء، وهو عذاب مخصوص‏.‏ والغور مشروح في الكهف، والمعين في قد أفلح، وجواب ‏{‏إن أهلكني‏}‏‏:‏ ‏{‏فمن يجير‏}‏، وجواب ‏{‏إن أصبح‏}‏‏:‏ ‏{‏فمن يأتيكم‏}‏، وتليت هذه الآية عند بعض المستهزئين فقال‏:‏ تجيء به الفوس والمعاويل، فذهب ماء عينيه‏.‏

سورة القلم

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 33‏]‏

‏{‏ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ‏(‏1‏)‏ مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ‏(‏2‏)‏ وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ ‏(‏3‏)‏ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ‏(‏4‏)‏ فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ ‏(‏5‏)‏ بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ ‏(‏6‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ‏(‏7‏)‏ فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏8‏)‏ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ ‏(‏9‏)‏ وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ ‏(‏10‏)‏ هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ ‏(‏11‏)‏ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ‏(‏12‏)‏ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ‏(‏13‏)‏ أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ ‏(‏14‏)‏ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏15‏)‏ سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ ‏(‏16‏)‏ إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ‏(‏17‏)‏ وَلَا يَسْتَثْنُونَ ‏(‏18‏)‏ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ ‏(‏19‏)‏ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ‏(‏20‏)‏ فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ ‏(‏21‏)‏ أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ ‏(‏22‏)‏ فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ ‏(‏23‏)‏ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ ‏(‏24‏)‏ وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ ‏(‏25‏)‏ فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ ‏(‏26‏)‏ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ‏(‏27‏)‏ قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ ‏(‏28‏)‏ قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏29‏)‏ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ ‏(‏30‏)‏ قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ ‏(‏31‏)‏ عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ ‏(‏32‏)‏ كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏ن‏}‏‏:‏ حرف من حروف المعجم، نحو ص وق، وهو غير معرب كبعض الحروف التي جاءت مع غيرها مهملة من العوامل والحكم على موضعها بالإعراب تخرص‏.‏ وما يروى عن ابن عباس ومجاهد‏:‏ أنه اسم الحوت الأعظم الذي عليه الأرضون السبع‏.‏ وعن ابن عباس أيضاً والحسن وقتادة والضحاك‏:‏ أنه اسم الدواة‏.‏ وعن معاوية بن قرة‏:‏ يرفعه أنه لوح من نور‏.‏ وعن ابن عباس أيضاً‏:‏ أنه آخر حرف من حروف الرحمن‏.‏ وعن جعفر الصادق‏:‏ أنه نهر من أنهار الجنة، لعله لا يصح شيء من ذلك‏.‏ وقال أبو نصر عبد الرحيم القشيري في تفسيره‏:‏ ن حرف من حروف المعجم، فلو كان كلمة تامة أعرب كما أعرب القلم، فهو إذن حرف هجاء كما في سائر مفاتيح السور‏.‏ انتهى‏.‏ ومن قال إنه اسم الدواة أو الحوت وزعم أنه مقسم به كالقلم، فإن كان علماً فينبغي أن يجر، فإن كان مؤنثاً منع الصرف، أو مذكراً صرف، وإن كان جنساً أعرب، ونون وليس فيه شيء من ذلك فضعف القول به‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ إذا كان اسماً للدواة، فإما أن يكون لغة لبعض العرب، أو لفظة أعجمية عربت، قال الشاعر‏:‏

إذا ما الشوق برّح بي إليهم *** ألقت النون بالدمع السجوم

فمن جعله البهموت، جعل القلم هو الذي خلقه الله وأمره بكتب الكائنات، وجعل الضمير في ‏{‏يسطرون‏}‏ للملائكة‏.‏ ومن قال‏:‏ هو اسم، جعله القلم المتعارف بأيدي الناس؛ نص على ذلك ابن عباس وجعل الضمير في ‏{‏يسطرون‏}‏ للناس، فجاء القسم على هذا المجموع أمر الكتاب الذي هو قوام للعلوم وأمور الدنيا والآخرة، فإن القلم أخو اللسان ونعمة من الله عامة‏.‏ انتهى‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ن‏}‏ بسكون النون وإدغامها في واو ‏{‏والقلم‏}‏ بغنة وقوم بغير غنة، وأظهرها حمزة وأبو عمرو وابن كثير وقالون وحفص‏.‏ وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق والحسن وأبو السمال‏:‏ بكسر النون لالتقاء الساكنين؛ وسعيد بن جبير وعيسى‏:‏ بخلاف عنه بفتحها، فاحتمل أن تكون حركة إعراب، وهو اسم للسورة أقسم به وحذف حرف الجر، فانتصب ومنع الصرف للعلمية والتأنيث، ويكون ‏{‏والقلم‏}‏ معطوفاً عليه‏.‏ واحتمل أن يكون لالتقاء الساكنين، وأوثر الفتح تخفيفاً كأين، وما يحتمل أن تكون موصولة ومصدرية، والضمير في ‏{‏يسطرون‏}‏ عائد على الكتاب لدلالة القلم عليهم، فإما أن يراد بهم الحفظة، وإما أن يراد كل كاتب‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن يراد بالقلم أصحابه، فيكون الضمير في ‏{‏يسطرون‏}‏ لهم، كأنه قيل‏:‏ وأصحاب القلم ومسطوراتهم أو وتسطيرهم‏.‏ انتهى‏.‏ فيكون كقوله‏:‏ ‏{‏كظلمات في بحر لجي‏}‏ أي وكذي ظلمات، ولهذا عاد عليه الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏يغشاه موج‏}‏ وجواب القسم‏:‏ ‏{‏ما أنت بنعمة ربك بمجنون‏}‏‏.‏ ويظهر أن ‏{‏بنعمة ربك‏}‏ قسم اعترض به بين المحكوم عليه والحكم على سبيل التوكيد والتشديد والمبالغة في انتفاء الوصف الذميم عنه صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ ‏{‏بنعمة ربك‏}‏ اعتراض، كما تقول للإنسان‏:‏ أنت بحمد الله فاضل‏.‏ انتهى‏.‏ ولم يبين ما تتعلق به الباء في ‏{‏بنعمة‏}‏‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ يتعلق ‏{‏بمجنون‏}‏ منفياً، كما يتعلق بعاقل مثبتاً في قولك‏:‏ أنت بنعمة الله عاقل، مستوياً في ذلك النفي والإثبات استواءهما في قولك‏:‏ ضرب زيد عمراً، وما ضرب زيد عمراً تعمل الفعل مثبتاً ومنفياً إعمالاً واحداً، ومحله النصب على الحال، كأنه قال‏:‏ ما أنت بمجنون منعماً عليك بذلك، ولم تمنع الباء أن يعمل مجنون فيما قبله لأنها زائدة لتأكيد النفي، والمعنى‏:‏ استبعاد ما كان ينسبه إليه كفار مكة عداوة وحسداً، وأنه من إنعام الله تعالى عليه بحصافة العقل والشهامة التي يقتضيها التأهيل للنبوة بمنزلة‏.‏ انتهى‏.‏

وما ذهب إليه الزمخشري من أن ‏{‏بنعمة ربك‏}‏ متعلق ‏{‏بمجنون‏}‏، وأنه في موضع الحال، يحتاج إلى تأمل، وذلك أنه إذا تسلط النفي على محكوم به، وذلك له معمول، ففي ذلك طريقان‏:‏ أحدهما‏:‏ أن النفي يتسلط على ذلك المعمول فقط، والآخر‏:‏ أن يتسلط النفي على المحكوم به فينتفي معموله لانتفائه بيان ذلك، تقول‏:‏ ما زيد قائم مسرعاً، فالمتبادر إلى الذهن أنه منتف إسراعه دون قيامه، فيكون قد قام غير مسرع‏.‏ والوجه الآخر أنه انتفى قيامه فانتفى إسراعه، أي لا قيام فلا إسراع، وهذا الذي قررناه لا يتأتى معه قول الزمخشري بوجه، بل يؤدي إلى مالا يجوز أن ينطق به في حق المعصوم صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل معناه‏:‏ ما أنت بمجنون والنعمة بربك لقولهم‏:‏ سبحانك اللهم وبحمدك، أي والحمد لله، ومنه قول لبيد‏:‏

وأفردت في الدنيا بفقد عشيرتي *** وفارقني جار بأربد نافع

أي‏:‏ وهو أربد‏.‏ انتهى‏.‏ وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب‏.‏ وفي المنتخب ما ملخصه المعنى‏:‏ انتفى عنك الجنون بنعمة ربك، أي حصول الصفة المحمودة، وزال عنك الصفة المذمومة بواسطة إنعام ربك‏.‏ ثم قرر بهذه الدعوى ما هو كالدليل القاطع على صحتها، لأن نعمه كانت ظاهرة في حقه من كمال الفصاحة والعقل والسيرة المرضية والبراءة من كل عيب والاتصاف بكل مكرمة، فحصول ذلك وظهوره جار مجرى اليقين في كونهم كاذبين في قولهم‏:‏ إنه مجنون‏.‏ ‏{‏وإن لك لأجراً‏}‏ في احتمال طعنهم وفي دعاء الخلق إلى الله، فلا يمنعك ما قالوا عن الدعاء إلى الله‏.‏ ‏{‏وإنك لعلى خلق عظيم‏}‏‏:‏ هذا كالتفسير لما تقدم من قوله‏:‏ ‏{‏بنعمة ربك‏}‏، وتعريف لمن رماه بالجنون أنه كذب وأخطأ، وأن من كان بتلك الأخلاق المرضية لا يضاف الجنون إليه، ولفظه يدل على الاستعلاء والاستيلاء‏.‏ انتهى‏.‏ ‏{‏وإن لك لأجراً‏}‏‏:‏ أي على ما تحملت من أثقال النبوة ومن أذاهم مما ينسبون إليك مما أنت لا تلتبس به من المعائب، ‏{‏غير ممنون‏}‏‏:‏ أي غير مقطوع، مننت الحبل‏:‏ قطعته، وقال الشاعر‏:‏

عبساً كواسب لا يمن طعامها *** أي لا يقطع‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ غير محسوب‏.‏ وقال الحسن‏:‏ غير مكدر بالمن‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ بغير عمل‏.‏ وقيل‏:‏ غير مقدر، وهو معنى قول مجاهد‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ أو غير ممنون عليك، لأن ثواب تستوجبه على عملك وليس بتفضل ابتداء، وإنما تمن الفواصل لا الأجور على الأعمال‏.‏ انتهى، وفيه دسيسة الاعتزال‏.‏ ‏{‏وإنك لعلى خلق عظيم‏}‏، قال ابن عباس ومجاهد‏:‏ دين عظيم ليس دين أحب إلى الله تعالى منه‏.‏ وقالت عائشة‏:‏ إن خلقه كان القرآن‏.‏ وقال علي‏:‏ هو أدب القرآن‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ما كان يأتمر به من أمر الله تعالى‏.‏ وقيل‏:‏ سمي عظيماً لاجتماع مكارم الأخلاق فيه، من كرم السجية، ونزاهة القريحة، والملكة الجميلة، وجودة الضرائب؛ ما دعاه أحد إلا قال لبيك، وقال‏:‏ «إن الله بعثني لأتمم مكارم الأخلاق»، ووصى أبا ذر فقال‏:‏ «وخالق الناس بخلق حسن» وعنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما من شيء يوضع في الميزان أثقل من خلق حسن» وقال‏:‏ «أحبكم إلى الله تعالى أحسنكم أخلاقاً» والظاهر تعلق ‏{‏بأيكم المفتون‏}‏ بما قبله‏.‏ وقال عثمان المازني‏:‏ تم الكلام في قوله ‏{‏ويبصرون‏}‏، ثم استأنف قوله‏:‏ ‏{‏بأيكم المفتون‏}‏‏.‏ انتهى‏.‏ فيكون قوله‏:‏ ‏{‏بأيكم المفتون‏}‏ استفهاماً يراد به الترداد بين أمرين، ومعلوم نفي الحكم عن أحدهما، ويعينه الوجود، وهو المؤمن، ليس بمفتون ولا به فتون‏.‏ وإذا كان متعلقاً بما قبله، وهو قول الجمهور، فقال قتادة وأبو عبيدة معمر‏:‏ الباء زائدة، والمعنى‏:‏ أيكم المفتون‏؟‏ وزيدت الباء في المبتدأ، كما زيدت فيه في قوله‏:‏ بحسبك درهم، أي حسبك‏.‏ وقال الحسن والضحاك والأخفش‏:‏ الباء ليست بزائدة، والمفتون بمعنى الفتنة، أي بأيكم هي الفتنة والفساد الذي سموه جنوناً‏؟‏ وقال الأخفش أيضاً‏:‏ بأيكم فتن المفتون، حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه‏.‏ ففي قوله الأول جعل المفتون مصدراً، وهنا أبقاه اسم مفعول وتأوله على حذف مضاف‏.‏ وقال مجاهد والفراء‏:‏ الباء بمعنى في، أي في أيّ فريق منكم النوع المفتون‏؟‏ انتهى‏.‏ فالباء ظرفية، نحو‏:‏ زيد بالبصرة، أي في البصرة، فيظهر من هذا القول أن الباء في القول قبله ليست ظرفية، بل هي سببية‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ المفتون‏:‏ المجنون لأنه فتن، أي محن بالجنون، أو لأن العرب يزعمون أنه من تخييل الجن، وهم الفتان للفتاك منهم‏.‏ انتهى‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة‏:‏ في أيكم المفتون‏.‏

‏{‏إن ربك هو أعلم‏}‏‏:‏ وعيد للضال، وهم المجانين على الحقيقة، حيث كانت لهم عقول لم ينتفعوا بها، ولا استعملوها فيما جاءت به الرسل، أو يكون أعلم كناية عن جزاء الفريقين‏.‏ ‏{‏فلا تطع المكذبين‏}‏‏:‏ أي الذين كذبوا بما أنزل الله عليك من الوحي، وهذا نهي عن طواعيتهم في شيء مما دعوه إليه من تعظيم آلهتهم‏.‏

‏{‏ودوا لو تدهن‏}‏‏:‏ لو هنا على رأي البصريين مصدرية بمعنى أن، أي ودوا ادهانكم، وتقدم الكلام في ذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يود أحدهم لو يعمر ألف سنة‏}‏ ومذهب الجمهور أن معمول ود محذوف، أي ودوا ادهانكم، وحذف لدلالة ما بعده عليه، ولو باقية على بابها من كونها حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره، وجوابها محذوف تقديره لسروا بذلك‏.‏ وقال ابن عباس والضحاك وعطية والسدي‏:‏ لو تدهن‏:‏ لو تكفر، فيتمادون على كفرهم‏.‏ وعن ابن عباس أيضاً‏:‏ لو ترخص لهم فيرخصون لك‏.‏ وقال قتادة‏:‏ لو تذهب عن هذا الأمر فيذهبون معك‏.‏ وقال الحسن‏:‏ لو تصانعهم في دينك فيصانعوك في دينهم‏.‏ وقال زيد بن أسلم‏:‏ لو تنافق وترائي فينافقونك ويراؤونك‏.‏ وقال الربيع بن أنس‏:‏ لو تكذب فيكذبون‏.‏ وقال أبو جعفر‏:‏ لو تضعف فيضعفون‏.‏ وقال الكلبي والفراء‏:‏ لو تلين فيلينون‏.‏ وقال أبان بن ثعلب‏:‏ لو تحابي فيحابون، وقالوا غير هذه الأقوال‏.‏ وقال الفراء‏:‏ الدهان‏:‏ التليين‏.‏ وقال المفضل‏:‏ النفاق وترك المناصحة، وهذا نقل أهل اللغة، وما قالوه لا يخرج عن ذلك لأن ما خالف ذلك هو تفسير باللازم، وفيدهنون عطف على تدهن‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ عدل به إلى طريق آخر، وهو أن جعل خبر مبتدأ محذوف، أي فهم يدهنون كقوله‏:‏ ‏{‏فمن يؤمن بربه فلا يخاف‏}‏ بمعنى ودوا لو تدهن فهم يدهنون حينئذ، أو ودوا ادهانك فهم الآن يدهنون لطمعهم في ادهانك‏.‏ انتهى‏.‏ وجمهور المصاحف على إثبات النون‏.‏ وقال هارون‏:‏ إنه في بعض المصاحف فيدهنوا، ولنصبه وجهان‏:‏ أحدهما أنه جواب ودوا لتضمنه معنى ليت؛ والثاني أنه على توهم أنه نطق بأن، أي ودوا أن تدهن فيدهنوا، فيكون عطفاً على التوهم، ولا يجيء هذا الوجه إلا على قول من جعل لو مصدرية بمعنى أن‏.‏

‏{‏ولا تطع كل حلاف مهين‏}‏‏:‏ تقدّم تفسير مهين وما بعده في المفردات، وجاءت هذه الصفات صفات مبالغة، ونوسب فيها فجاء ‏{‏حلاف‏}‏ وبعده ‏{‏مهين‏}‏، لأن النون فيها مع الميم تواخ‏.‏ ثم جاء‏:‏ ‏{‏هماز مشاء بنميم‏}‏ بصفتي المبالغة، ثم جاء‏:‏ ‏{‏مناع للخير معتد أثيم‏}‏، فمناع وأثيم صفتا مبالغة، والظاهر أن الخير هنا يراد به العموم فيما يطلق عليه خير‏.‏ وقيل‏:‏ الخير هنا المال، يريد مناع للمال عبر به عن الشح، معناه‏:‏ متجاوز الحد في الظلم‏.‏ وفي حديث شداد بن أوس قلت‏:‏ يعني لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وما العتل الزنيم‏؟‏ قال‏:‏ الرحيب الجوف، الوتير الخلق، الأكول الشروب، الغشوم الظلوم‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ عتل برفع اللام، والجمهور‏:‏ بجرها بعد ذلك‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ جعل جفاءه ودعوته أشد معايبه، لأنه إذا جفا وغلظ طبعه قسا قلبه واجترأ على كل معصية، ولأن الغالب أن النطفة إذا خبثت خبث الناشئ منها، ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«لا يدخل الجنة ولد الزنا ولا ولده ولا ولد ولده»، وبعد ذلك نظير ثم في قوله‏:‏ ‏{‏ثم كان من الذين آمنوا‏}‏ وقرأ الحسن‏:‏ عتل رفعاً على الذم، وهذه القراءة تقوية لما يدل عليه بعد ذلك‏.‏ انتهى‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ‏{‏بعد ذلك‏}‏‏:‏ أي بعد أن وصفناه به، فهذا الترتيب إنما هو في قول الواصف لا في حصول تلك الصفات في الموصوف، وإلا فكونه عتلاً هو قبل كونه صاحب خبر يمنعه‏.‏ انتهى‏.‏ والزنيم‏:‏ الملصق في القوم وليس منهم، قاله ابن عباس وغيره‏.‏ وقيل‏:‏ الزنيم‏:‏ المريب القبيح الأفعال، وعن ابن عباس أيضاً‏:‏ الزنيم‏:‏ الذي له زنمة في عنقه كزنمة الشاة، وما كنا نعرف المشار إليه حتى نزلت فعرفناه بزنمته‏.‏ انتهى‏.‏ وروي أن الأخفش بن شريف كان بهذه الصفة، كان له زنمة‏.‏ وروى ابن جبير عن ابن عباس أن الزنيم هو الذي يعرف بالشر، كما تعرف الشاة بالزنمة‏.‏ وعنه أيضاً‏:‏ أنه المعروف بالابنة‏.‏ وعنه أيضاً‏:‏ أنه الظلوم‏.‏ وعن عكرمة‏:‏ هو اللئيم‏.‏ وعن مجاهد وعكرمة وابن المسيب‏:‏ أنه ولد الزنا الملحق في النسب بالقوم، وكان الوليد دعيا في قريش ليس من منحهم، ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة من مولده‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ كانت له ستة أصابع في يده، في كل إبهام أصبع زائدة، والذي يظهر أن هذه الأوصاف ليست لمعين‏.‏ ألا ترى إلى قوله‏:‏ ‏{‏كل حلاف‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إنا بلوناهم‏}‏‏؟‏ فإنما وقع النهي عن طواعية من هو بهذه الصفات‏.‏

قال ابن عطية ما ملخصه، قرأ النحويان والحرميان وحفص وأهل المدينة‏:‏ ‏{‏إن كان‏}‏ على الخبر؛ وباقي السبعة والحسن وابن أبي إسحاق وأبو جعفر‏:‏ على الاستفهام؛ وحقق الهمزتين حمزة، وسهل الثانية باقيهم‏.‏ فأما على الخبر، فقال أبو علي الفارسي‏:‏ يجوز أن يعمل فيها عتل وأن كان قد وصف‏.‏ انتهى، وهذا قول كوفي، ولا يجوز ذلك عند البصريين‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏زنيم‏}‏ لا سيما على قول من فسره بالقبيح الأفعال‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ متعلق بقوله‏:‏ ‏{‏ولا تطع‏}‏، يعنى ولا تطعه مع هذه المثالب، ل ‏{‏أن كان ذا مال‏}‏‏:‏ أي ليساره وحظه من الدنيا، ويجوز أن يتعلق بما بعده على معنى لكونه متمولاً مستظهراً بالبنين، كذب آياتنا ولا يعمل فيه، قال الذي هو جواب إذا، لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله، ولكن ما دلت عليه الجملة من معنى التكذيب‏.‏ انتهى‏.‏ وأما على الاستفهام، فيحتمل أن يفسر عامل يدل عليه ما قبله، أي أيكون طواعية لأن كان‏؟‏ وقدره الزمخشري‏:‏ أتطيعه لأن كان‏؟‏ أو عامل يدل عليه ما قبله، أي أكذب أو جحد لأن كان‏؟‏ وقرأ نافع في رواية اليزيدي عنه‏:‏ إن كان بكسر الهمزة‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ والشرط للمخاطب، أي لا تطع كل حلاف شارطاً يساره، لأنه إذا أطاع الكافر لغناه، فكأنه اشترط في الطاعة الغنى، ونحو صرف الشرط إلى المخاطب صرف الرجاء إليه في قوله‏:‏ «لعله يذكر»‏.‏

انتهى‏.‏ وأقوال‏:‏ إن كان شرط، وإذا تتلى شرط، فهو مما اجتمع فيه شرطان، وليسا من الشروط المترتبة الوقوع، فالمتأخر لفظاً هو المتقدم، والمتقدم لفظاً هو شرط في الثاني، كقوله‏:‏

فإن عثرت بعدها إن والت *** نفسي من هاء تاء فقولا لها لها

لأن الحامل على ترك تدبر آيات الله كونه ذا مال وبنين، فهو مشغول القلب، فذلك غافل عن النظر والفكر، قد استولت عليه الدنيا وأبطرته‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ أئذا على الاستفهام، وهو استفهام تقريع وتوبيخ على قوله القرآن أساطير الأولين لما تليت عليه آياته الله‏.‏ ولما ذكر قبائح أفعاله وأقواله، ذكر ما يفعل به على سبيل التوعد فقال‏:‏ ‏{‏سنسمه على الخرطوم‏}‏، والسمة‏:‏ العلامة‏.‏ ولما كان الوجه أشرف ما في الإنسان، والأنف أكرم ما في الوجه لتقدمه، ولذلك جعلوه مكان العز والحمية، واشتقوا منه الأنفة وقالوا‏:‏ حميّ الأنف شامخ العرنين‏.‏ وقالوا في الذليل‏:‏ جدع أنفه، ورغم أنفه‏.‏ وكان أيضاً مما تظهر السمات فيه لعلو، قال‏:‏ ‏{‏سنسمه على الخرطوم‏}‏، وهو غاية الإذلال والإهانة والاستبلاد، إذ صار كالبهيمة لا يملك الدفع عن وسمه في الأنف، وإذا كان الوسم في الوجه شيناً، فكيف به على أكرم عضو فيه‏؟‏ وقد قيل‏:‏ الجمال في الأنف، وقال بعض الأدباء‏:‏

وحسن الفتى في الأنف والأنف عاطل *** فكيف إذا ما الخال كان له حليا

وسنسمه فعل مستقبل لم يتعين زمانه‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ هو الضرب بالسيف، أي يضرب به وجهه وعلى أنفه، فيجيء ذلك كالوسم على الانف، وحل به ذلك يوم بدر‏.‏ وقال المبرد‏:‏ ذلك في عذاب الآخرة في جهنم، وهو تعذيب بنار على أنوفهم‏.‏ وقال آخرون‏:‏ ذلك يوم القيامة، أي نوسم على أنفه بسمة يعرف بها كفره وانحطاط قدره‏.‏ وقال قتادة وغيره‏:‏ معناه سنفعل به في الدنيا من الذم والمقت والاشتهار بالشر ما يبقى فيه ولا يخفى به، فيكون ذلك كالوسم على الأنف ثابتاً بيناً، كما تقول‏:‏ سأطوقك طوق الحمامة‏:‏ أي أثبت لك الأمر بيناً فيك، ونحو هذا أراد جرير بقوله‏:‏

لما وضعت على الفرزدق ميسمي *** وفي الوسم على الأنف تشويه، فجاءت استعارته في المذمات بليغة جدّاً‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وإذا تأملت حال أبي جهل ونظرائه، وما ثبت لهم في الدنيا من سوء الأخروية، رأيت أنهم قد وسموا على الخراطيم‏.‏ انتهى‏.‏ وقال أبو العالية ومقاتل، واختاره الفراء‏:‏ يسود وجهه قبل دخول النار، وذكر الخرطوم، والمراد الوجه، لأن بعض الوجه يؤدي عن بعض‏.‏ وقال أبو عبد الله الرازي‏:‏ إنما بالغ الكافر في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم بسبب الأنفة والحمية، فلما كان شاهد الإنكار هو الأنفة والحمية، عبر عن هذا الاختصاص بقوله‏:‏ ‏{‏سنسمه على الخرطوم‏}‏‏.‏

انتهى كلامه‏.‏ وفي استعارة الخرطوم مكان الأنف استهانة واستخفاف، لأن حقيقة الخرطوم هو للسباع‏.‏ وتلخص من هذا أن قوله‏:‏ ‏{‏سنسمه على الخرطوم‏}‏، أهو حقيقة أم مجاز‏؟‏ وإذا كان حقيقة، فهل ذلك في الدنيا أو في الآخرة‏؟‏ وأبعد النضر بن شميل في تفسيره الخرطوم بالخمر، وأن معناه سنحده على شربها‏.‏

ولما ذكر المتصف بتلك الأوصاف الذميمة، وهم كفار قريش، أخبر تعالى بما حل بهم من الابتلاء بالقحط والجوع بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف» الحديث، كما بلونا أصحاب الجنة المعروف خبرها عندهم‏.‏ كانت بأرض اليمين بالقرب منهم قريباً من صنعاء لرجل كان يؤدي حق الله منها، فمات فصارت إلى ولده، فمنعوا الناس خيرها وبخلوا بحق الله تعالى، فأهلكها الله تعالى من حيث لم يمكنهم دفع ما حل بهم‏.‏ وقيل‏:‏ كانت بصوران على فراسخ من صنعاء لناس بعد رفع عيسى عليه السلام، وكان صاحبها ينزل للمساكنين ما أخطأه المنجل وما في أسفل الأكراس وما أخطاه القطاف من العنب وما بقي على السباط تحت النخلة إذا صرمت، فكان يجتمع لهم شيء كثير‏.‏ فلما مات قال بنوه‏:‏ إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر ونحن أولو عيال، فحلفوا ‏{‏ليصرِمنها مصبحين‏}‏ في السدف خفية من المساكين، ولم يستثنوا في يمينهم؛ والكاف في ‏{‏كما بلونا‏}‏ في موضع نصب، وما مصدرية‏.‏ وقيل‏:‏ بمعنى الذي، وإذ معمول لبلوناهم ليصرمنها جواب القسم لا على منطوقهم، إذ لو كان على منطوقهم لكان لنصرمنها بنون المتكلمين، والمعنى‏:‏ ليجدن ثمرها إذا دخلوا في الصباح قبل خروج المساكين إلى عادتهم مع أبيهم‏.‏ ‏{‏ولا يستثنون‏}‏‏:‏ أي ولا ينثنون عن ما عزموا عليه من منع المساكين‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ معناه‏:‏ لا يقولون إن شاء الله، بل عزموا على ذلك عزم من يملك أمره‏.‏ وقال الزمخشري، متبعاً قول مجاهد‏:‏ ولا يقولون إن شاء الله‏.‏ فإن قلت‏:‏ لم سمي استثناء، وإنما هو شرط‏؟‏ قلت‏:‏ لأنه يؤدي مؤدّى الاستثناء من حيث أن معنى قولك‏:‏ لأخرجن إن شاء الله، ولا أخرج إلا أن يشاء الله واحد‏.‏ انتهى‏.‏

‏{‏فطاف عليها طائف‏}‏، قرأ النخعي‏:‏ طيف‏.‏ قال الفراء‏:‏ والطائف‏:‏ الأمر الذي يأتي بالليل، ورد عليه بقوله‏:‏ ‏{‏إذا مسهم طائف من الشيطان‏}‏ فلم يتخصص بالليل، وطائف مبهم‏.‏ فقيل‏:‏ هو جبريل عليه السلام، اقتلعها وطاف بها حول البيت، ثم وضعها حيث مدينة الطائف اليوم، ولذلك سميت بالطائف، وليس في أرض الحجاز بلدة فيها الماء والشجر والأعناب غيرها‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ طائف من أمر ربك‏.‏ وقال قتادة‏:‏ عذاب من ربك‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ عنق خرج من وادي جهنم‏.‏

‏{‏فأصبحت كالصريم‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ كالرماد الأسود، والصريم‏:‏ الرماد الأسود بلغة خزيمة، وعنه أيضاً‏:‏ الصريم رملة باليمن معروفة لا تنبت، فشبه جنتهم بها‏.‏ وقال الحسن‏:‏ صرم عنها الخير، أي قطع‏.‏ فالصريم بمعنى مصروم‏.‏ وقال الثوري‏:‏ كالصبح من حيث ابيضت كالزرع المحصود‏.‏ وقال مورج‏:‏ كالرملة انصرمت من معظم الرمل، والرملة لا تنبت شيئاً ينفع‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ كالصبح انصرم من الليل‏.‏ وقال المبرد‏:‏ كالنهار فلا شيء فيها‏.‏ وقال شمر‏:‏ الصريم‏:‏ الليل، والصريم‏:‏ النهار، أي ينصرم هذا عن ذاك، وذاك عن هذا‏.‏ وقال الفراء والقاضي منذر بن سعيد وجماعة‏:‏ الصريم‏:‏ الليل من حيث اسودت جنتهم‏.‏ ‏{‏فتنادوا‏}‏‏:‏ دعا بعضهم بعضاً إلى المضي إلى ميعادهم، ‏{‏أن اغدوا على حرثكم‏}‏‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ فإن قلت‏:‏ هلا قيل ‏{‏اغدوا إلى حرثكم‏}‏، وما معنى على‏؟‏ قلت‏:‏ لما كان الغدو إليه ليصرموه ويقطعوه كان غدواً عليه، كما تقول‏:‏ غدا عليهم العدو‏.‏ ويجوز أن يضمن الغد ومعنى الإقبال، كقولهم‏:‏ يغدي عليه بالجفنة ويراح، أي فاقبلوا على حرثكم باكرين‏.‏ انتهى‏.‏ واستسلف الزمخشري أن غداً يتعدى بإلى، ويحتاج ذلك إلى نقل بحيث يكثر ذلك فيصير أصلاً فيه ويتأول ما خالفه، والذي في حفظي أنه معدى بعلى، كقول الشاعر‏:‏

بكرت عليه غدوة فرأيته *** قعوداً عليه بالصريم عوادله

‏{‏إن كنتم صارمين‏}‏‏:‏ الظاهر أنه من صرام النحل‏.‏ قيل‏:‏ ويحتمل أن يريد‏:‏ إن كنتم أهل عزم وإقدام على رأيكم، من قولك‏:‏ سيف صارم‏.‏ ‏{‏يتخافتون‏}‏‏:‏ يخفون كلامهم خوفاً من أن يشعر بهم المساكين‏.‏ ‏{‏أن لا يدخلنها‏}‏‏:‏ أي يتخافتون بهذا الكلام وهو لا يدخلنها، وأن مصدرية، ويجوز أن تكون تفسيرية‏.‏ وقرأ عبد الله وابن أبي عبلة‏:‏ لا يدخلنها، بإسقاط أن على إضمار يقولون، أو على إجراء يتخافتون مجرى القول، إذ معناه‏:‏ يسارون القول والنهي عن الدخول‏.‏ نهى عن التمكين منه، أي لا تمكنوهم من الدخول فيدخلوا‏.‏ ‏{‏وغدوا على حرد قادرين‏}‏‏:‏ أي على قصد وقدوة في أنفسهم، يظنون أنهم تمكنوا من مرادهم‏.‏ قال معناه ابن عباس، أي قاصدين إلى جنتهم بسرعة، قادرين عند أنفسهم على صرامها‏.‏ قال أبو عبيدة والقتبي‏:‏ ‏{‏على حرد‏}‏‏:‏ على منع، أي قادرين في أنفسهم على منع المساكين من خيرها، فجزاهم الله بأن منعهم خيراً‏.‏ وقال الحسن‏:‏ ‏{‏على حرد‏}‏، أي حاجة وفاقة‏.‏ وقال السدي وسفيان‏:‏ ‏{‏على حرد‏}‏‏:‏ على غضب، أي لم يقدروا إلا على حنق وغضب بعضهم على بعض‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏على حرد‏}‏‏:‏ على انفراد، أي انفردوا دون المساكين‏.‏ وقال الأزهري‏:‏ حرد اسم قريتهم‏.‏ وقال السدي‏:‏ اسم جنتهم، أي غدوا على تلك الجنة قادرين على صرامها عند أنفسهم، أو مقدرين أن يتم لهم مرادهم من الصرام‏.‏ قيل‏:‏ ويحتمل أن يكون من التقدير بمعنى التضييق لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن قدر عليه رزقه‏}‏ أي مضيقين على المساكين، إذ حرموهم ما كان أبوهم ينيلهم منها‏.‏

‏{‏فلما رأوها‏}‏‏:‏ أي على الحالة التي كانوا غدوها عليها، من هلاكها وذهاب ما فيها من الخير، ‏{‏قَالوا إنا لضالون‏}‏‏:‏ أي عن الطريق إليها، قاله قتادة‏.‏ وذلك في أول وصولهم أنكروا أنها هي، واعتقدوا أنهم أخطأوا الطريق إليها، ثم وضح لهم أنها هي، وأنه أصابها من عذاب الله ما أذهب خيرها‏.‏ وقيل‏:‏ لضالون عن الصواب في غدونا على نية منع المساكين، فقالوا‏:‏ ‏{‏بل نحن محرومون‏}‏ خيرها بخيانتنا على أنفسنا‏.‏ ‏{‏قال أوسطهم‏}‏‏:‏ أي أفضلهم وأرجحهم عقلاً، ‏{‏ألم أقل لكم لولا تسبحون‏}‏‏:‏ أنبهم ووبخهم على تركهم ما حضهم عليه من تسبيح الله، أي ذكره وتنزيهه عن السوء، ولو ذكروا الله وإحسانه إليهم لامتثلوا ما أمر به من مواساة المساكين واقتفوا سنة أبيهم في ذلك‏.‏ فلما غفلوا عن ذكر الله تعالى وعزموا على منع المساكين، ابتلاهم الله، وهذا يدل على أن أوسطهم كان قد تقدم إليهم وحرضهم على ذكر الله تعالى‏.‏ وقال مجاهد وأبو صالح‏:‏ كان استثناؤهم سبحان الله‏.‏ قال النحاس‏:‏ جعل مجاهد التسبيح موضع إن شاء الله، لأن المعنى تنزيه الله أن يكون شيء إلا بمشيئته‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ لالتقائهما في معنى التعظيم لله، لأن الاستثناء تفويض إليه، والتسبيح تنزيه له، وكل واحد من التفويض والتنزيه تعظيم له‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏لولا تسبحون‏}‏‏:‏ تستغفرون‏.‏

ولما انبهم، رجعوا إلى ذكر الله تعالى، واعترفوا على أنفسهم بالظلم، وبادروا إلى تسبح الله تعالى فقالوا‏:‏ ‏{‏سبحان ربنا‏}‏‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ أي نستغفر الله من ذنبنا‏.‏ ولما أقروا بظلمهم، لام بعضهم بعضاً، وجعل اللوم في حيز غيره، إذ كان منهم من زين، ومنهم من قبل، ومنهم من أمر بالكف، ومنهم من عصى الأمر‏.‏ ومنهم من سكت على رضا منه‏.‏ ثم اعترفوا بأنهم طغوا، وترجوا انتظار الفرج في أن يبدلهم خيراً من تلك الجنة، ‏{‏عسى ربنا أن يبدلنا‏}‏‏:‏ أي بهذه الجنة، ‏{‏خير منها‏}‏‏:‏ وتقدم الكلام في الكهف، والخلاف في تخفيف يبدلنا، وتثقيلها منسوباً إلى القراء‏.‏ ‏{‏إنا إلى ربنا راغبون‏}‏‏:‏ أي طالبون إيصال الخير إلينا منه‏.‏ والظاهر أن أصحاب هذه الجنة كانوا مؤمنين أصابوا معصية وتابوا‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا من أهل الكتاب‏.‏ وقال عبد الله بن مسعود‏:‏ بلغني أن القوم دعوا الله وأخلصوا، وعلم الله منهم الصدق فأبدلهم بها جنة، وكل عنقود منها كالرجل الأسود القائم‏.‏ وعن مجاهد‏:‏ تابوا فأبدوا خيراً منها‏.‏ وقال القشيري‏:‏ المعظم يقولون أنهم تابوا وأخلصوا‏.‏ انتهى‏.‏ وتوقف الحسن في كونهم مؤمنين وقال‏:‏ أكان قولهم‏:‏ ‏{‏إنا إلى ربنا راغبون‏}‏ إيماناً، أو على حد ما يكون من المشركين إذا أصابتهم الشدة‏؟‏‏.‏

‏{‏كذلك العذاب‏}‏‏:‏ هذا خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم في أمر قريش‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والإشارة بذلك إلى العذاب الذي نزل بالجنة، أي ‏{‏كذلك العذاب‏}‏‏:‏ أي الذي نزل بقريش بغتة، ثم عذاب الآخرة بعد ذلك أشد عليهم من عذاب الدنيا‏.‏

وقال كثير من المفسرين‏:‏ العذاب النازل بقريش الممائل لأمر الجنة هو الجدب الذي أصابهم سبع سنين حتى رأوا الدخان وأكلوا الجلود‏.‏ انتهى‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ مثل ذلك العذاب الذي بلونا به أهل مكة وأصحاب الجنة عذاب الدنيا‏.‏ ‏{‏ولعذاب الآخرة‏}‏ أشد وأعظم منه‏.‏ انتهى‏.‏ وتشبيه بلاء قريش ببلاء أصحاب الجنة هو أن أصحاب الجنة عزموا على الانتفاع بثمرها وحرمان المساكين، فقلب الله تعالى عليهم وحرمهم‏.‏ وأن قريشاً حين خرجوا إلى بدر حلفوا على قتل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإذا فعلوا ذلك رجعوا إلى مكة وطافوا بالكعبة وشربوا الخمور، فقلب الله عليهم بأن قتلوا وأسروا‏.‏ ولما عذبهم بذلك في الدنيا قال‏:‏ ‏{‏ولعذاب الآخرة أكبر‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 52‏]‏

‏{‏إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏34‏)‏ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ ‏(‏35‏)‏ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ‏(‏36‏)‏ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ ‏(‏37‏)‏ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ ‏(‏38‏)‏ أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ ‏(‏39‏)‏ سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ ‏(‏40‏)‏ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ‏(‏41‏)‏ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ‏(‏42‏)‏ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ ‏(‏43‏)‏ فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏44‏)‏ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ‏(‏45‏)‏ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ‏(‏46‏)‏ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ‏(‏47‏)‏ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ ‏(‏48‏)‏ لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ ‏(‏49‏)‏ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏50‏)‏ وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ‏(‏51‏)‏ وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ‏(‏52‏)‏‏}‏

لما ذكر تعالى أنه بلا كفار قريش وشبه بلاءهم ببلاء أصحاب الجنة، أخبر بحال أضدادهم وهم المتقون، فقال‏:‏ ‏{‏إن للمتقين‏}‏‏:‏ أي الكفر، ‏{‏جنات النعيم‏}‏‏:‏ أضافها إلى النعيم، لأن النعيم لا يفارقها، إذ ليس فيها إلا هو، فلا يشوبه كدر كما يشوب جنات الدنيا‏.‏

وروي أنه لما نزلت هذه الآية قالت قريش‏:‏ إن كان ثم جنة فلنا فيها أكثر الحظ، فنزلت‏:‏ ‏{‏أفنجعل المسلمين كالمجرمين‏}‏‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ قالوا فضلنا الله عليكم في الدنيا، فهو يفضلنا عليكم في الآخرة، وإلا فالمشاركة، فأجاب تعالى‏:‏ ‏{‏أفنجعل‏}‏‏:‏ أي لا يتساوى المطيع والعاصي، هو استفهام فيه توقيف على خطأ ما قالوا وتوبيخ‏.‏ ثم التفت إليهم فقال‏:‏ ‏{‏ما لكم‏}‏، أي‏:‏ أي شيء لكم فيما تزعمون‏؟‏ وهو استفهام إنكار عليهم‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏كيف تحكمون‏}‏، وهو استفهام ثالث على سبيل الإنكار عليهم، استفهم عن هيئة حكمهم‏.‏ ففي قوله‏:‏ ‏{‏ما لكم‏}‏ استفهام عن كينونة مبهمة، وفي ‏{‏كيف تحكمون‏}‏ استفهام عن هيئة حكمهم‏.‏

ثم أضرب عن هذا إضراب انتقال لشيء آخر لا إبطال لما قبله فقال‏:‏ ‏{‏أم لكم‏}‏، أي‏:‏ بل ألكم‏؟‏ ‏{‏كتاب‏}‏، أي من عند الله، ‏{‏تدرسون‏}‏ أن ما تختارونه يكون لكم‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏إن لكم‏}‏ بكسر الهمزة، فقيل هو استئناف قول على معنى‏:‏ إن لكم كتاب فلكم فيه متخير‏.‏ وقيل‏:‏ أن معمولة لتدرسون، أي تدرسون في الكتاب أن لكم، ‏{‏لما تخيرون‏}‏‏:‏ أي تختارون من النعيم، وكسرت الهمزة من أن لدخول اللام في الخبر، وهي بمعنى أن بفتح الهمزة، قاله الزمخشري وبدأ به وقال‏:‏ ويجوز أن تكون حكاية للمدروس كما هو، كقوله‏:‏ ‏{‏وتركنا عليه في الآخرين سلام على نوح‏}‏ انتهى‏.‏ وقرأ طلحة والضحاك‏:‏ أن لكم بفتح الهمزة، واللام في لما زائدة كهي في قراءة من قرأ الا أنهم ليأكلون الطعام بفتح همزة أنهم‏.‏ وقرأ الأعرج‏:‏ أإن لكم على الاستفهام‏.‏

‏{‏أم لكم أيمان‏}‏‏:‏ أي أقسام علينا، ‏{‏بالغة‏}‏‏:‏ أي متناهية في التوكيد‏.‏ يقال‏:‏ لفلان عليّ يمين إذا حلفت له على الوفاء بما حلفت عليه، وإلى يوم القيامة متعلق بما تعلق به الخبر وهو لكم، أي ثابتة لكم إلى يوم القيامة، أو ببالغة‏:‏ أي تبلغ إلى ذلك اليوم وتنتهي إليه‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏بالغة‏}‏ بالرفع على الصفة، والحسن وزيد بن علي‏:‏ بالنصب على الحال من الضمير المستكن في علينا‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ حال من نكرة لأنها مخصصة تغليباً‏.‏ ‏{‏إن لكم لما تحكمون‏}‏‏:‏ جواب القسم، لأن معنى ‏{‏أم لكم أيمان علينا‏}‏‏:‏ أم أقسمنا لكم، قاله الزمخشري‏.‏ وقرأ الأعرج‏:‏ أإن لكم عليّ، كالتي قبلها على الاستفهام‏.‏ ‏{‏سلهم أيهم بذلك زعيم‏}‏‏:‏ أي ضامن بما يقولونه ويدعون صحته، وسل معلقة عن مطلوبها الثاني، لما كان السؤال سبباً لحصول العلم جاز تعليقه كالعلم، ومطلوبها الثاني أصله أن يعدى بعن أو بالباء، كما قال تعالى‏:‏

‏{‏يسئلونك عن الشهر الحرام‏}‏ وقال الشاعر‏:‏

فإن تسألوني بالنساء فإنني *** عليم بأدواء النساء طبيب

ولو كان غير اسم استفهام لتعدى إليه بعن أو بالباء، كما تقول‏:‏ سل زيداً عن من ينظر في كذا، ولكنه علق سلهم، فالجملة في موضع نصب‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم‏}‏؛ وعبد الله وابن أبي عبلة‏:‏ فليأتوا بشركهم، قيل‏:‏ والمراد في القراءتين الأصنام أو ناس يشاركونهم في قولهم ويوافقونهم فيه، أي لا أحد يقول بقولهم، كما أنه لا كتاب لهم، ولا عهد من الله، ولا زعيم بذلك، ‏{‏فليأتوا بشركائهم‏}‏‏:‏ هذا استدعاء وتوقيف‏.‏ قيل‏:‏ في الدنيا أي ليحضروهم حتى ترى هل هم بحال من يضر وينفع أم لا‏.‏ وقيل‏:‏ في الآخرة، على أن يأتوا بهم‏.‏

‏{‏يوم يكشف عن ساق‏}‏‏:‏ وعلى هذا القول الناصب ليوم فليأتوا‏.‏ وقيل‏:‏ اذكر، وقيل التقدير‏:‏ يوم يكشف عن ساق كان كيت وكيت، وحذف للتهويل العظيم بما يكون فيه من الحوادث؛ والظاهر وقول الجمهور‏:‏ إن هذا اليوم هو يوم القيامة‏.‏ وقال أبو مسلم‏:‏ هذا اليوم هو في الدنيا لأنه قال‏:‏ ‏{‏ويدعون إلى السجود‏}‏، ويوم القيامة ليس فيه تعبد ولا تكليف، بل المراد منه إما آخر أيام الرجل في دنياه لقوله‏:‏ ‏{‏يوم يرون الملائكة لا بشرى‏}‏ ثم يرى الناس يدعون إلى الصلاة إذا حضرت أوقاتها، فلا يستطيع الصلاة لأنه الوقت الذي لا ينفع فيه نفساً إيمانها؛ وإما حال المرض والهرم والمعجزة‏.‏ ‏{‏وقد كانوا‏}‏ قبل ذلك اليوم، ‏{‏يدعون إلى السجود وهم سالمون‏}‏ مما بهم الآن‏.‏ فذلك إما لشدة النازلة بهم من هول ما عاينوا عند الموت، وإما من العجز والهرم‏.‏ وأجيب بأن الدعاء إلى السجود ليس على سبيل التكليف، بل على سبيل التقريع والتخجيل‏.‏ وعند ما يدعون إلى السجود، سلبوا القدرة عليه، وحيل بينهم وبين الاستطاعة حتى يزداد حزنهم وندامتهم على ما فرطوا فيه حين دعوا إليه وهم سالمون الأطراف والمفاصل‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏يكشف‏}‏ بالياء مبنياً للمفعول‏.‏ وقرأ عبد الله بن أبي عبلة‏:‏ بفتح الياء مبنياً للفاعل؛ وابن عباس وابن مسعود أيضاً وابن هرمز‏:‏ بالنون؛ وابن عباس‏:‏ يكشف بفتح الياء منبياً للفاعل؛ وعنه أيضاً بالياء مضمومة مبنياً للمفعول‏.‏ وقرئ‏:‏ يكشف بالياء المضمومة وكسر الشين، من أكشف إذا دخل في الكشف، ومنه أكشف الرجل‏:‏ انقلبت شفته العليا، وكشف الساق كناية عن شدة الأمر وتفاقمه‏.‏ قال مجاهد‏:‏ هي أول ساعة من يوم القيامة وهي أفظعها‏.‏ ومما جاء في الحديث من قوله‏:‏ «فيكشف لهم عن ساق»، محمول أيضاً على الشدة في ذلك اليوم، وهو مجاز شائع في لسان العرب‏.‏ قال حاتم‏:‏

أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها *** وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا

وقال الراجز‏:‏

عجبت من نفسي ومن إشفاقها *** ومن طرادي الخيل عن أرزاقها

في سنة قد كشفت عن ساقها *** حمراء تبري اللحم عن عراقها

وقال الراجز‏:‏

قد شمرت عن ساقها فشدوا *** وجدّت الحرب بكم فجدوا

وقال آخر‏:‏

صبراً امام إن شرباق *** وقامت الحرب بنا على ساق

وقال الشاعر‏:‏

كشفت لهم عن ساقها *** وبدا من الشر البوا

ويروى‏:‏ الصداخ‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ يوم يكشف عن شدة‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ هذه كلمة تستعمل في الشدة، يقال‏:‏ كشف عن ساقه إذا تشمر‏.‏ قال‏:‏ ومن هذا تقول العرب لسنة الجدب‏:‏ كشفت ساقها، ونكر ساق للدلالة على أنه أمر مبهم في الشدة، خارج عن المألوف، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم يدعو الداع إلى شيء نكر‏}‏، فكأنه قيل‏:‏ يوم يقع أمر فظيع هائل‏.‏ ‏{‏ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون‏}‏‏:‏ ظاهره أنهم يدعون، وتقدم أن ذلك على سبيل التوبيخ لا على سبيل التكليف‏.‏ وقيل‏:‏ الداعي ما يرونه من سجود المؤمنين، فيريدون هم السجود فلا يستطيعونه، كما ورد في الحديث الذي حاورهم فيه الله تعالى أنهم يقولون‏:‏ أنت ربنا، ويخرون للسجود، فيسجد كل مؤمن وتصير أصلاب المنافقين والكفار كصياصي البقر عظماً واحداً، فلا يستطيعون سجوداً‏.‏ انتهى‏.‏ ونفي الاستطاعة للسجود في الآخرة لا يدل على أن لهم استطاعة في الدنيا، كما ذهب إليه الجبائي‏.‏ و‏{‏خاشعة‏}‏‏:‏ حال، وذو الحال الضمير في ‏{‏يدعون‏}‏، وخص الأبصار بالخشوع، وإن كانت الجوارح كلها خاشعة، لأنه أبين فيه منه في كل جارحة، ‏{‏ترهقهم‏}‏‏:‏ تغشاهم، ‏{‏ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود‏}‏‏.‏ قيل‏:‏ هو عبارة عن جميع الطاعات، وخص بالذكر من حيث هو أعظم الطاعات، ومن حيث امتحنوا به في الآخرة‏.‏ وقال النخعي والشعبي‏:‏ أراد بالسجود‏:‏ الصلوات المكتوبة‏.‏ وقال ابن جبير‏:‏ كانوا يسمعون النداء للصلاة وحي على الفلاح فلا يجيبون‏.‏

‏{‏فذرني ومن يكذب بهذا الحديث‏}‏، المعنى‏:‏ خل بيني وبينه، فإني سأجازيه وليس ثم مانع‏.‏ وهذا وعيد شديد لمن يكذب بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من أمر الآخرة وغيره، وكان تعالى قدم أشياء من أحوال السعداء والأشقياء‏.‏ ومن في موضع نصب، إما عطفاً على الضمير في ذرني، وإما على أنه مفعول معه‏.‏ ‏{‏سنستدرجهم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏متين‏}‏‏:‏ تكلم عليه في الأعراف‏.‏ ‏{‏أم تسئلهم أجراً‏}‏ إلى‏:‏ ‏{‏يكتبون‏}‏‏:‏ تكلم عليه في الطور‏.‏ روي أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يدعو على الذين انهزموا بأحُد حين اشتد بالمسلمين الأمر‏.‏ وقيل‏:‏ حين أراد أن يدعو على ثقيف، فنزلت‏:‏ ‏{‏فاصبر لحكم ربك‏}‏‏:‏ وهو إمهالهم وتأخير نصرك عليهم، وامض لما أمرت به من التبليغ واحتمال الأذى، ‏{‏ولا تكن كصاحب الحوت‏}‏‏:‏ هو يونس عليه السلام، ‏{‏إذ نادى‏}‏‏:‏ أي في بطن الحوت، وهو قوله‏:‏

‏{‏أن لا إله إلا أنت سبحانك‏}‏ وليس النهي منصباً على الذوات، إنما المعنى‏:‏ لا يكن حالك مثل حاله‏.‏ ‏{‏إذ نادى‏}‏‏:‏ فالعامل في إذ هو المحذوف المضاف، أي كحال أو كقصة صاحب الحوت، ‏{‏إذ نادى وهو مكظوم‏}‏‏:‏ مملوء غيظاً على قومه، إذ لم يؤمنوا لما دعاهم إلى الإيمان، وأحوجوه إلى استعجال مفارقته إياهم‏.‏ وقال ذو الرمة‏:‏

وأنت من حب ميّ مضمر حزنا *** عانى الفؤاد قريح القلب مكظوم

وتقدمت مادة كظم في قوله‏:‏ ‏{‏والكاظمين الغيظ‏}‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏تداركه‏}‏ ماضياً، ولم تلحقه علامة التأنيث لتحسين الفصل‏.‏ وقرأ عبد الله وابن عباس‏:‏ تداركته بتاء التأنيث؛ وابن هرمز والحسن والأعمش‏:‏ بشد الدال‏.‏ قال أبو حاتم‏:‏ ولا يجوز ذلك، والأصل في ذلك تتداركه، لأنه مستقبل انتصب بأن الخفيفة قبله‏.‏ وقال بعض المتأخرين‏:‏ هذا لا يجوز على حكاية الحال الماضية المقتضية، أي لولا أن كان يقال تتداركه، ومعناه‏:‏ لولا هذه الحال الموجودة كانت له من نعم الله ‏{‏لنبذ بالعراء‏}‏، ونحوه قوله‏:‏ ‏{‏فوجد فيها رجلين يقتتلان‏}‏ وجواب ‏{‏لولا‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏لنبذ بالعراء وهو مذموم‏}‏، أي لكنه نبذه وهو غير مذموم، كما قال‏:‏ ‏{‏فنبذناه بالعراء‏}‏ والمعتمد فيه على الحال لا على النبذ مطلقاً، بل بقيد الحال‏.‏ وقيل‏:‏ لنبذ بعراء القيامة مذموماً، ويدل عليه ‏{‏فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون‏}‏ ثم أخبر تعالى أنه ‏{‏اجتباه‏}‏‏:‏ أي اصطفاه، ‏{‏ونبيا من الصالحين‏}‏‏:‏ أي الأنبياء‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ رد الله إليه الوحي وشفعة في قومه‏.‏

ولما أمره تعالى بالصبر لما أراده تعالى ونهاه عن ما نهاه، أخبره بشدة عداوتهم ليتلقى ذلك بالصبر فقال‏:‏ ‏{‏وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك‏}‏‏:‏ أي ليزلقون قومك بنظرهم الحاد الدال على العداوة المفرطة، أو ليهلكونك من قولهم‏:‏ نظر إليّ نظراً يكاد يصرعني ويكاد يأكلني، أي لو أمكنه بنظره الصرع والأكل لفعله‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

يتعارضون إذا التقوا في موطن *** نظراً يزل مواطن الأقدام

وقال الكلبي‏:‏ ليزلقونك‏:‏ ليصرفونك‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏ليزلقونك‏}‏ بضم الياء من أزلق؛ ونافع‏:‏ بفتحها من زلقت الرجل، عدى بالفتحة من زلق الرجل بالكسر، نحو شترت عينه بالكسر، وشترها الله بالفتح‏.‏ وقرأ عبد الله وابن عباس والأعمش وعيسى‏:‏ ليزهقونك‏.‏ وقيل‏:‏ معنى ‏{‏ليزلقونك بأبصارهم‏}‏‏:‏ ليأخذونك بالعين، وذكر أن اللفع بالعين كان في بني أسد‏.‏ قال ابن الكلبي‏:‏ كان رجل من العرب يمكث يومين أو ثلاثة لا يأكل، ثم يرفع جانب خبائه فيقول‏:‏ لم أر كاليوم إبلاً ولا غنماً أحسن من هذه، فما تذهب إلا قليلاً ثم تسقط طائفة أو عدة منها‏.‏ قال الكفار لهذا الرجل أن يصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجابهم، وأنشد‏:‏

قد كان قومك يحسبونك سيداً *** وأخال أنك سيد معيون

أي‏:‏ مصاب بالعين، فعصم الله نبيه صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه هذه الآية‏.‏

قال قتادة‏:‏ نزلت لدفع العين حين أرادوا أن يعينوه عليه الصلاة والسلام‏.‏ وقال الحسن‏:‏ دواء من أصابته العين أن يقرأ هذه الآية‏.‏ وقال القشيري‏:‏ الإصابة بالعين إنما تكون مع الاستحسان، لا مع الكراهة والبغض، وقال‏:‏ ‏{‏ويقولون إنه لمجنون‏}‏‏.‏ وقال القرطبي‏:‏ ولا يمنع كراهة الشيء من أن يصاب بالعين عداوة له حتى يهلك‏.‏ انتهى‏.‏ وقد يكون في المعين، وإن كان مبغضاً عند العائن صفة يستحسنها العائن، فيعينه من تلك الصفة، لا سيما من تكون فيه صفات كمال‏.‏ ‏{‏لما سمعوا الذكر‏}‏‏:‏ من يقول لما ظرف يكون العامل فيه ‏{‏ليزلقونك‏}‏، وإن كان حرف وجوب لوجوب، وهو الصحيح، كان الجواب محذوفاً لدلالة ما قبله عليه، أي لما سمعوا الذكر كادوا يزلقونك، والذكر‏:‏ القرآن‏.‏ ‏{‏ويقولون إنه لمجنون‏}‏ تنفيراً عنه، وقد علموا أنه صلى الله عليه وسلم أتمهم فضلاً وأرجحهم عقلاً‏.‏ ‏{‏وما هو‏}‏‏:‏ أي القرآن، ‏{‏إلا ذكر‏}‏‏:‏ عظة وعبرة، ‏{‏للعالمين‏}‏‏:‏ أي للجن والإنس، فكيف ينسبون إلى الجن من جاء به‏؟‏‏.‏